لقضى بينهم : باستئصال المبطلين حين تفرقوا .
14- { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } .
لم يتفرق المتفرقون في الدين ولم يختلفوا فيه ، إلا من بعد ما جاءهم العلم من أنبيائهم ومن كتبهم ، بالدعوة إلى الوحدة والجماعة ، والتحذير من الفرقة والاختلاف ، ولكن الأتباع خالفوا هذه التوصيات رغبة في المال والرئاسة ومتع الحياة الدنيا ، فآثروا البغي والحسد والتشرذم والاختلاف والتفرق ، وقد وعد الله سبحانه بإمهال الناس فترة لعلهم أن يتوبوا ويراجعوا أنفسهم ، ولولا رحمته وإمهاله لعاقبهم في الدنيا بما يستحقون .
قال تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } . ( فاطر : 45 ) .
وقد امتد الخلاف من السابقين إلى اللاحقين .
{ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } .
الذين ورثوا التوراة والإنجيل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم في شك شديد من كتبهم ؛ لأن فيها تغييرا وتبديلا ، أو هم في شك وريب شديد من القرآن الكريم ، فعواطفهم مع هذا القرآن ، وعقولهم وحرصهم على المراكز ومنازل الدنيا تدعوهم إلى بقائهم في مراكزهم .
وقريب من ذلك قوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . ( الأنعام : 33 ) .
وقوله سبحانه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا . . . } ( النمل : 14 ) .
يقول الكاتب الأوروبي " ج . ه . دنيسون " في كتابه ( العواطف كأساس للحضارة ) :
" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفى جرف هارٍ من الفوضى ، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها ، وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى – التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة – مشرفة على التفكك والانحلال ، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب ولا تتناحر ، لا قانون ولا نظام ، أما النظم التي خلفتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار ، بدلا من الاتحاد والنظام ، وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله ، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " 6 . يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
{ 14-15 } { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ، ونهاهم عن التفرق ، أخبرهم
أنكم لا تغتروا بما أنزل الله عليكم من الكتاب ، فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع ، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم ، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم ، فإنهم تباغضوا وتحاسدوا ، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ، فوقع الاختلاف ، فاحذروا أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم .
{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } أي : بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ولكن حكمته وحلمه ، اقتضى تأخير ذلك عنهم . { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : الذين ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : لفي اشتباه كثير يوقع في الاختلاف ، حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا ، فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا ، والجميع مشتركون في الاختلاف المذموم .
قوله تعالى : { وما تفرقوا } يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة البينة . { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } الآية { إلا من بعد ما جاءهم العلم } بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك ، { بغياً بينهم } أي : للبغي ، قال عطاء : يعني بغياً بينهم على محمد صلى الله عليه وسلم ، { ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عنهم ، { إلى أجل مسمى } وهو يوم القيامة . { لقضي بينهم } بين من آمن وكفر ، يعني أنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا ، { وإن الذين أورثوا الكتاب } أي اليهود والنصارى ، { من بعدهم } أي من بعد أنبيائهم ، وقيل : من بعد الأمم الخالية . وقال قتادة : معناه من قبلهم أي : من قبل مشركي مكة . { لفي شك منه مريب } أي : من محمد صلى الله عليه وسلم .
" وما تفرقوا " قال ابن عباس : يعني قريشا . " إلا من بعد ما جاءهم العلم " محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، دليله قوله تعالى في سورة فاطر : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير " {[13476]} [ فاطر : 42 ] يريد نبيا . وقال في سورة البقرة : " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " [ البقرة : 89 ] على ما تقدم بيانه هناك{[13477]} . وقيل : أمم الأنبياء المتقدمين ، فإنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى ، فآمن قوم وكفر قوم . وقال ابن عباس أيضا : يعني أهل الكتاب ، دليله في سورة المنفكين : " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " [ البينة : 4 ] . فالمشركون قالوا : لم خُص بالنبوة ! واليهود حسدوه لما بعث ، وكذا النصارى . " بغيا بينهم " أي بغيا من بعضهم على بعض طلبا للرياسة ، فليس تفرقهم لقصوره في البيان والحجج ، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا . " ولولا كلمة سبقت من ربك " في تأخير العقاب عن هؤلاء . " إلى أجل مسمى " قيل : القيامة ؛ لقوله تعالى : " بل الساعة موعدهم " {[13478]} [ القمر : 46 ] . وقيل : إلى الأجل الذي قضي فيه بعذابهم . " لقضي بينهم " أي بين من آمن وبين من كفر بنزول العذاب . " وإن الذين أورثوا الكتاب " يريد اليهود والنصارى . " من بعدهم " أي من بعد المختلفين في الحق . " لقي شك منه مريب " من الذي أوصى به الأنبياء . والكتاب هنا التوراة والإنجيل . وقيل : " إن الذين أورثوا الكتاب " قريش . " من بعدهم " من بعد اليهود النصارى . " لفي شك " من القرآن أو من محمد . وقال مجاهد : معنى " من بعدهم " من قبلهم ، يعني من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود والنصارى .
{ وما تفرقوا } يعني : أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم .
{ ولولا كلمة } يعني : القضاء السابق بأن لا يفصل بينهم في الدنيا .
{ وإن الذين أورثوا الكتاب } يعني : المعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : يعني العرب ، والكتاب على هذا القرآن .
{ لفي شك منه } الضمير للكتاب ، أو للدين أو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .