8- ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم .
أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر نعمة الله عليكم ، من العافية والرزق والحياة والعقل وسائر النّعم ، حتى الشربة الباردة في اليوم الحار .
ومعروف أن شكر النعمة هو استخدامها فيما خلقها الله له ، فشكر المال صلة الرحم وعمل الخير ، وشكر نعمة النظر غض البصر عن المحارم ، والتأمل في كتاب الله وفي خلق الكون .
قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عمّ ما يأتي :
أي : إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به ، وتعدّونه مما يباهي به بعضكم بعضا ، هو مما لا بد أن تسألوا عنه : ماذا صنعتم به ؟ هل أديتم حق الله فيه ، وراعيتم حدود أحكامه في التمتع به ؟ فإن لم تكن الحقوق أدّيت ، ولم تكن الأحكام روعيت ، كان هذا النعيم غاية الشقاء في دار البقاء .
نسأل الله أن يوفقنا لرعاية أحكامه فيما أنعم به علينا . اه .
روى البخاري في صحيحه ، والترمذي في سننه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )vi .
ومعنى هذا أنهم مقصّرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون .
قال : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيم استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى :
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا . vii . ( الإسراء : 36 ) .
رواه مسلم في الزهد ( 2958 ) والترمذي في الزهد ( 2342 ) وفي التفسير ( 3354 ) والنسائي في الوصايا ( 3613 ) وأحمد في مسنده ( 15870 ) من حديث مطرف عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : { ألهاكم التكاثر } قال : يقول ابن آدم مالي مالي ، قال : وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت .
iii من أصبح منكم آمنا في سربه :
رواه الترمذي في الزهد ( 2346 ) وابن ماجة في الزهد ( 4141 ) من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية ، وحيزت : جمعت .
v التفسير الوسيط د . محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر ، الجزء الثلاثون ، سورة التكاثر ص 698 .
vi نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ :
رواه البخاري في الرقاق ( 6412 ) والترمذي في الزهد ( 2304 ) وابن ماجة في الزهد ( 4170 ) والدارمي في الرقاق ( 2707 ) وأحمد في سمنده ( 2336 ، 3179 ) من حديث ابن عباس يرفعه : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) .
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به ، على معاصيه ، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل ، أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } الآية .
القرطبي : قال مالك رحمه الله : إنه صحة البدن ، وطيب النفس ....
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } يقول : ثم ليسألنكم الله عزّ وجلّ عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا : ماذا عملتم فيه ؟ من أين وصلتم إليه ؟ وفيم أصبتموه ؟ وماذا عملتم به ؟
واختلف أهل التأويل في ذلك النعيم ما هو ؟
فقال بعضهم : هو الأمن والصحة ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم لَيُسْئَلُنّ يومئذٍ عما أنعم الله به عليهم مما وهب لهم من السمع والبصر وصحة البدن ...
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : بعض ما يطعمه الإنسان ، أو يشربه ...
حدثني عليّ بن سهل الرمليّ ، قال : حدثنا الحسن بن بلال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عَمّار بن أبي عمار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأطعمناهم رُطَبا ، وسقيناهم ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَذَا مِنَ النّعِيمِ الّذِي تُسْئَلُونَ عَنْهُ » ...
حدثني الحسن بن عليّ الصّدائي ، قال : حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : بينما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما جالسان ، إذ جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما أجْلَسَكُما ها هُنا ؟ » قالا : الجوع ، قال : «وَالّذِي بَعَثَنِي بالْحَقّ ما أخْرَجَنِي غَيرُهُ » ، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ فُلانُ ؟ » فقالت : ذهب يستعذب لنا ماء ، فجاء صاحبهم يحمل قربته ، فقال : مَرْحَبا ، ما زار العِبادَ شَيءٌ أفضلَ من شيء زارني اليوم ، فعلّق قربته بكَرَب نخلة ، وانطلق فجاءهم بعِذْق ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ ؟ » فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ، ثم أخذ الشّفرة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إيّاكَ والْحَلُوبَ » ، فذبح لهم يومئذٍ ، فأكلوا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَتُسْئَلُنّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ ، أخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حتّى أصَبْتُمْ هَذَا ، فَهَذَا مِنَ النّعِيمِ » ...
حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسين بن عليّ الصّدَائي ، قالا : حدثنا شَبَابة بن سوّار ، قال : ثني عبد الله بن العلاء أبو رَزِين الشامي ، قال : حدثنا الضحاك بن عَرْزَم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أوّلَ ما يُسْئَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ النّعِيمِ أنْ يُقالَ لَهُ : أَلَمْ نُصِحّ لَكَ جِسْمَكَ ، وَتُرْوَ مِنَ الماءِ البارِدِ » ؟...
وقال آخرون : ذلك كلّ ما التذّه الإنسان في الدنيا من شيء ...
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إن الله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم ، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع ، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع ، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم ، لا عن بعض دون بعض .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ظاهر هذا يقتضي أن يكون سؤالهم بعد ما دخلوا النار ، لأنه قال : { ثم لتسألن } بعد ما وصف أنهم يدخلون النار ، فبان أنه في ذلك الوقت . فإن كان على ذلك ، فهو في موضع التقرير عندهم أنهم استوجبوا المقت والعقوبة ؛ لأنه كان عندهم أن من أنعم الله عليه بنعمة فلم يشكرها ، استوجب المقت والعقوبة ، فإن الله تعالى يسألهم في ذلك الوقت عن شكر ما أنعم عليهم ، ليقرر عندهم استيجاب العقوبة . ويجوز هذا عند الحساب ؛ لأنه قال : { يومئذ } ولم يقل : قبل ذلك ، أو بعده ؛ بل قال على الإطلاق ، فيعمل به . وإذا احتمل ذلك الوجه إلى المؤمنين والكافرين ، وكان الوجه في سؤال المؤمنين تذكيرا لهم أن أعمالهم ( لم ) تبلغ ما يستوفي بها شكر النعمة التي أنعمها عليهم ، وليعلموا أن الله تعالى تفضل عليهم ، وتجاوز عنهم ، لا أن بلغت إليه حسناتهم ، فاستوجبوا رحمته بها ؛ بل بكرمه وفضله . وإن كان في الكافرين ، فهو تقرير ما استوجبوا من نقمته حين تركوا شكر نعمه . وقوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } إن كان السؤال للكفرة ، فإنهم يسألون عما تركوا من الإيمان ، وعما أتى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن غير ذلك من النعم . وإن كان للمؤمنين فهو في سائر النعم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ....
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
روينا عن مجاهد ، أنه قال في قول الله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } ، قال : كل شيء من لذة الدنيا . ( س : 26/328 ) ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه . فإن قلت : ما النعيم الذي يسأل عنه الإنسان ويعاتب عليه ؟ فما من أحد إلاّ وله نعيم ؟ قلت : هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلاّ ليأكل الطيب ، ويلبس اللين ، ويقطع أوقاته باللهو والطرب ، لا يعبأ بالعلم والعمل ، ولا يحمّل نفسه مشاقهما ؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلاّ لعباده ، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل ، وكان ناهضاً بالشكر ، فهو من ذاك بمعزل ...
المسألة الأولى : في أن الذي يسأل عن النعيم من هو ؟ فيه قولان : أحدهما : وهو الأظهر أنهم الكفار.....
والقول الثاني : أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث ....
واعلم أن الأولى أن يقال : السؤال يعم المؤمن والكافر ، لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع .
المسألة الثانية : ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوها ... الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ، ويدل عليه وجوه :
( أحدها ) أن الألف واللام يفيدان الاستغراق.
( وثانيها ) : أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قلت : ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة ، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار ؛ بل ظاهر اللفظ ، وصريح السنة والاعتبار : يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له ، فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك . ويدل على ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة هذه السورة : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ الحديث » وهو في صحيح مسلم . وقائل ذلك قد يكون مسلما ، وقد يكون كافرا . ويدل عليه أيضا الأحاديث التي تقدمت ، وسؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفهمهم العموم ، حتى قالوا له : «وأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هو الأسودان » ، فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك . وقال : ما لكم ولها ؟ إنما هي للكفار . فالصحابة فهموا العموم ، والأحاديث صريحة في التعميم ، والذي أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ? ( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل ! ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذا تأكيد قوي ؛ لأن الله سبحانه سيتولى سؤال عباده عن كل ما تقلبوا فيه من النعم أثناء حياتهم في الدنيا ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها ، وما تضمنته من تحذير الملهى ، وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها إلى آخرها بالكفار ، ولا يليق ذلك بها ، ويكفي في ذلك تأمل الأحاديث المرفوعة فيها ، والله أعلم . وتأمل ما في هذا العتاب الموجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها ، إلى أن زار القبور ، ولم يستيقظ من نوم الإلهاء ؛ بل أرقد التكاثر قلبه ، فلم يستفق منه إلا وهو في عسكر الأموات . وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتعين لك أن العموم مقصود . وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به ، ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا ، على اختلاف أجناسها وأنواعها . وأيضا فان التكاثر تفاعل ، وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه ، فيكون أكثر منه فيما يكاثره به ، والحامل له على ذلك : توهمه أن العزة للكاثر .....فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره ، كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ، ولم تضرهم ؛ إذ لم يتكاثروا بها . وكل من كاثر إنسانا في دنياه ، أو جاهه ، أو غير ذلك ، أشغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة . فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه ، وتكمل به وتزكو ، وتصير مفلحة . فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك ، وينافسها في هذه المكاثرة ، ويسابقها إليها . فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد . وضده : تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم ، فهذا تكاثر مله عن الله والدار الآخرة ، هو صائر إلى غاية القلة ، فعاقبة هذا التكاثر : قل وفقر وحرمان . والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر بالله وبنعمه ، وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى . وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا ، وأحسن منه عملا ، وأغزر علما . وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها كاثره بخصلة أخرى ، هو قادر على المكاثرة بها ، وليس هذا التكاثر مذموما ، ولا قادحا في إخلاص العبد ؛ بل هو حقيقة المنافسة ، واستباق الخيرات . وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره ، وكذلك كانت حال عمر مع أبى بكر رضي الله عنهما . فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر رضي الله عنه له قال : «والله لا أسابقك إلى شيء أبدا » . فصل ومن تأمل حسن موقع { كلا } في هذا الموضع ، فإنها تضمنت ردعا لهم ، وزجرا عن التكاثر ، ونفيا وإبطالا لما يؤملونه ، من نفع التكاثر لهم ، وعزتهم وكمالهم به ، فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا ، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم ، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية ، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم : من أين استخرجوها ؟ وفيم صرفوها ؟ فلله ما أعظمها من سورة ، وأجلها وأعظمها فائدة ، وأبلغها موعظة وتحذيرا ، وأشدها ترغيبا في الآخرة ، وتزهيدا في الدنيا ، على غاية اختصارها ، وجزالة ألفاظها ، وحسن نظمها . فتبارك من تكلم بها حقا ، وبلغها رسوله عنه وحيا ... وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين ؛ بل هم مستودعون في المقابر مدة ، وبين أيديهم دار القرار . فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين ، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار ؟ فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة ، ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر . فهنا ثلاثة أمور : عبور السبيل هذه الدنيا ، وغايته زيارة القبور ، وبعدها النقلة إلى دار القرار . ...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ولقد احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى ، ومتسقا مع التلقينات التي احتوتها السور المماثلة السابقة ، وهو وجوب تنبيه الناس إلى واجباتهم نحو الله ونحو الناس في الحياة الدنيا ، وعدم الاندفاع في الاستكثار من المال والاستغراق في النعيم ، وجعل شهوات الحياة ونعميها قصارى الهم والمطلب . ... روح الآيات تلهم أن التنديد والتنبيه موجهان إلى من تلهيه أمواله وأولاده وشهواته ومتعه عن واجباته نحو ربه ونحو الناس ، ويستغرق في ذلك استغراقا يملك عليه تفكيره ، ويعمي بصيرته ، ويجعله لا يحسب للعواقب حسابا ، ويوهمه بأنه في أمن دائم ، لا إلى أصحاب الأموال والأولاد والمتنعمين إطلاقا إذا ما أدوا حق الله بالإيمان به وعبادته وشكره ، وحق الناس بالبر ، والتزموا القصد والاعتدال .
قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر . فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة " ؟ قالا : الجوع يا رسول الله . قال : " وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوما " ، فقاما معه ، فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلا . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين فلان " ؟ قالت : يستعذب لنا من الماء ؛ إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال : فانطلق ، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه . وأخذ المدية فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب " فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ، فلما أن شبعوا ورووا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : " والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " . خرجه الترمذي ، وقال [ فيه ] : " هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة : ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد " وكنى الرجل الذي من الأنصار ، فقال : أبو الهيثم ابن التيهان . وذكر قصته .
قلت : اسم هذا الرجل الأنصاري مالك بن التيهان ، ويكنى أبا الهيثم . وفي هذه القصة يقول عبد الله بن رواحة ، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان :
فلم أر كالإسلام عِزًّا لأمة *** ولا مثل أضيافِ الإِرَاشِيِّ{[16343]} مَعْشَرَا
نبيٌّ وصِدِّيقٌ وفاروق أمة *** وخير بني{[16344]} حواء فَرْعًا وعُنْصُرَا
فوافوا لميقاتٍ وقدرِ قضية *** وكان قضاء الله قَدْرًا{[16345]} مُقَدَّرَا
إلى رجل نجد يباري بجودِهِ *** شُموسَ الضحى جودا ومجدا ومفخرا
وفارسِ خلق الله في كل غارة *** إذا لبِس القوم الحديد المُسَمَّرَا
ففدّى وحيَّا ثم أدنى قراهم *** فلم يَقْرِهِمْ إلا سمينا مُتَمِّرَا{[16346]}
وقد ذكر أبو نُعَيم الحافظ ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، فخرجت إليه ، ثم مر بأبي بكر فدعاه ، فخرج إليه ، ثم مر بعمر فدعاه ، فخرج إليه ، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : " أطعمنا بسرا " فجاء بعذق ، فوضعه فأكلوا ، ثم دعا بماء فشرب ، فقال : " لتسألن عن هذا يوم القيامة " قال : وأخذ عمر العذق ، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال : " نعم ، إلا من ثلاث : كسرة يسد بها جوعته ، أو ثوب يستر به عورته ، أو حجر يأوي فيه من الحر والقر " . واختلف أهل التأويل في النعيم المسؤول عنه على عشرة أقوال :
أحدها : الأمن والصحة ، قاله ابن مسعود . الثاني : الصحة والفراغ ، قاله سعيد بن جبير . وفي البخاري عنه عليه السلام : " نعمتان مغبون{[16347]} فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . الثالث :الإدراك بحواس السمع والبصر ، قاله ابن عباس . وفي التنزيل : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }{[16348]} [ الإسراء : 36 ] . وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( " يؤتي بالعبد يوم القيامة ، فيقول له : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ، ومالا وولدا . . . . " ، الحديث . خرجه الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح . الرابع : ملاذ المأكول والمشروب ، قاله جابر بن عبد الله الأنصاري ، وحديث أبي هريرة يدل عليه . الخامس : أنه الغداء والعشاء ، قاله الحسن . السادس : قول مكحول الشامي : إنه شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم . ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { لتسألن يومئذ عن النعيم } يعني عن شبع البطون . . . " . فذكره ، ذكره الماوردي ، وقال : وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن ، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة . وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية . وقال قوم : هذا السؤال عن كل نعمة ، إنما يكون في حق الكفار ، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان ، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب{[16349]} ، وماء عذب ، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال عليه السلام : " ذلك للكفار ، ثم قرأ : { وهل نجازي إلا الكفور }{[16350]} [ سبأ : 17 ] ، ذكره القشيري أبو نصر . وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار . وقال القشيري : والجمع بين الأخبار : أن الكل يسألون ، ولكن سؤال الكفار توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر . وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه شكر ، وهذا النعيم في كل نعمة .
قلت : هذا القول حسن ؛ لأن اللفظ يعم . وقد ذكر الفريابي قال : حدثنا ورقاء ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : كل شيء من لذة الدنيا . وروى أبو الأحوص عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة ، حتى يعد عليه : سألتني فلانة أن أزوجكها ، فيسميها باسمها ، فزوجتكها " . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الناس : يا رسول الله ، عن أي النعيم نسأل ؟ فإنما هما الأسودان{[16351]} والعدو حاضر ، وسيوفنا على عواتقنا . قال : " إن ذلك سيكون " . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد - أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ، ونرويك من الماء البارد " ، قال : حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده ، فيوقفه بين يديه ، فيسأله عن جاهه كما يسأل عن ماله " . والجاه من نعيم الدنيا لا محالة . وقال مالك رحمه الله : إنه صحة البدن ، وطيب النفس ، وهو القول السابع . وقيل : النوم مع الأمن والعافية . وقال سفيان بن عيينة : إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس ، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة ، وإنما يسأل عن النعيم . قال : والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة . فقال له : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }{[16352]} [ طه : 118 ] . فكانت هذه الأشياء الأربعة - ما يسد به الجوع ، وما يدفع به العطش ، وما يستكن فيه من الحر ، ويستر به عورته ، لآدم عليه السلام بالإطلاق ، لا حساب عليه فيها ؛ لأنه لابد له منها .
قلت : ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر ، قال : إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته ، وطعاما يقيم صلبه ، ومكانا يكنه من الحر والبرد .
قلت : وهذا منتزع من قول عليه السلام : " ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته ، وجلف الخبز والماء " ، خرجه الترمذي . وقال النضر بن شميل : جلف الخبز : ليس معه إدام . وقال محمد بن كعب : النعيم : هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وفي التنزيل : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم }{[16353]} [ آل عمران :164 ] . وقال الحسن أيضا والمفضل : هو تخفيف الشرائع ، وتيسير القرآن ، قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }{[16354]} [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }{[16355]} [ القمر :17 ] .
قلت : وكل هذه نعم ، فيسأل العبد عنها : هل شكر ذلك أم كفر . والأقوال المتقدمة أظهر . والله أعلم .
ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب ، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً ، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال ، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال ، فقال مفخماً بأداة التراخي : { ثم } أي بعد أمور طويلة عظيمة مهولة جداً { لتسئلن } وعزتنا { يومئذ } أي إذ ترون الجحيم { عن النعيم * } أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء : هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف ، أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير ، فلم يخرج عن السرف ؟ فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف ، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف ، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس ، وإليه يشير حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ضاف أبا الهيثم ابن التيهان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأطعمهم بسراً ورطباً ، وسقاهم ماء بارداً ، وبسط لهم بساطاً في ظل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه : ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد " وقد يكون للكمال ، فيكون من أعلام النبوة ، كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها : أي نعيم ، وإنما هما الأسودان : التمر والماء ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، قال : " إن ذلك سيكون " ، له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما ، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً ، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب ، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب ؛ لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال ، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح ، فكيف بالمكروه ، فكيف ثم كيف بالمحرم ؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال ؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب ؟ فكيف إذا جر إلى العذاب ؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته ، في نذاراته وبشاراته ، والله أرحم .