السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

ثم إنه تعالى ضرب لعبدة الأوثان مثلاً آخر بقوله تعالى : { وضرب الله مثلاً } ، ثم أبدل منه : { رجلين } ، ثم استأنف البيان لما أجمل فقال : { أحدهما أبكم } ، وهو الذي ولد أخرس ، فكل أبكم أخرس ، وليس كل أخرس أبكم ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم الذي لا يسمع و لا يبصر ، وصف الله تعالى هذا الرجل بصفة ثانية بقوله تعالى : { لا يقدر على شيء } ؛ لأنه لا يفهم و لاَ يُفهم ، وفي ذلك إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل ، ثم وصفه الله تعالى بصفة ثالثة بقوله تعالى : { وهو } ، أي : ذلك الأبكم العاجز ، { كلّ على مولاه } ، أي : ثقيل على من ولي أمره ويعوله ، قال أهل المعاني : أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال : كلّ السكين : إذا غلظت شفرته فلم تقطع ، وكلَّ اللسان : إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكل فلان عن الأمر : إذا ثقل عليه فلم ينهض فيه ، ثم وصفه تعالى بصفة رابعة بقوله :{ أينما يوجهه } ، أي : يرسله ويصرفه ذلك المولى ، { لا يأت بخير } ؛ لأنه عاجز لا يحسن و لا يفهم ، قيل : هذا مثل شركائهم ، الذين هم عيال ووبال على عبدتهم ، ووبخهم الله تعالى بقوله : { هل يستوي هو } أي : هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ، { ومن } ، أي : ورجل آخر على ضد صفته ، فهو : ناطق قادر عالم فطن قوي خبير مبارك ميمون ، { يأمر } ، أي : ورجل آخر بماله من العلم والقدرة ، { بالعدل } ، أي : يبذل النصيحة لغيره ، { وهو } ، في نفسه ظاهراً وباطناً ، { على صراط } ، أي : طريق واضح { مستقيم } ، أي : عامل فيه بما يأمر به ، قيل : هذا مثال المعبود بالحق الذي يكفي عابديه جميع المؤن ، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته ، وقيل : المراد من هذا الأبكم : عبد لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير ، ومولاه : وهو عثمان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم ، وقيل : المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة ، وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة ، وهذا القول كما قال الرازي أولى من الأول ؛ لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن ، وكذلك بالبكم وبالكلّ ، وبالتوجه في جهات المنافع ، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم ، يمنع من حمله على الله تعالى . و أيضاً المقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور ، وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى ، وأمّا القول الثاني فضعيف أيضاً ؛ لأنّ المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة ، وذلك غير مختص بشخص معين ، بل إذا حصل التفاوت في الصفات المذكورة فإنه يحصل المقصود .