ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى : { قل الله أعلم بما لبثوا } ، أي : فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم ، وقيل إنّ أهل الكتاب قالوا إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسع سنين ، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال : { الله أعلم بما لبثوا } يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله { له غيب السماوات والأرض } ، أي : ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى : { أبصر به وأسمع } كلمة تذكر في التعجب ، أي : ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل بمسموع { ما لهم } ، أي : أهل السماوات والأرض { من دونه } ، أي : الله { من وليّ } ، أي : ناصر { ولا يشرك في حكمه } ، أي : في قضائه { أحداً } منهم ولا يجعل له فيه مدخلاً لأنه غني بذاته عن كل أحد ، وقيل الحكم هنا علم الغيب ، أي : لا يشرك في علم غيبه أحداً . وقرأ ابن عامر بالمثناة فوق قبل الشين وبسكون الكاف على نهي كل أحد عن الإشراك ، والباقون بالتحتية وضمّ الكاف .
تنبيه : احتج أصحابنا رحمهم الله تعالى بهذه القصة على صحة القول بالكرامة للأولياء وقد قدمنا معرفة الوليّ في سورة يونس عند قوله تعالى : { إلا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس ، 62 ] فمما يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول ، أمّا القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها . الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم سالمين من الآفات مدّة ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، وأنّ الله تعالى كان يعصمهم من حرّ الشمس ، ومن الناس من تمسك أيضاً في هذه المسألة بقوله تعالى : { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك } [ النمل ، 40 ] على أنه غير السيد سليمان والسيد جبريل .
وأما الأخبار فكثيرة منها ما أخرج في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ؛ عيسى بن مريم وصبيّ في زمن جريج وصبيّ آخر ؛ وأمّا عيسى فقد عرفتموه ، وأمّا جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أمّ فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمّه فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمّي وصلاتي الصلاة خير أم رؤيتها ثم يصلي فدعته ثانياً فقال : مثل ذلك حتى تم ثلاث مرّات وكان يصلي ويدعها فاشتدّ ذلك على أمّه فقالت : اللهمّ لا تمته حتى تريه المومسات . وكانت زانية في بني إسرائيل فقالت لهم : أنا أفتن جريجاً حتى يزني بي فأتته فلم تقدر على شيء ، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى صومعته فلما أعياها جريج راودّت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت : ولدي هذا من جريج ، فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه ثم نخس الغلام قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال بيده : يا غلام من أبوك ؟ فقال : الراعي . فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت . وأمّا الصبيّ الآخر فإنّ امرأة كان معها صبيّ لها ترضعه إذ مرّ بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللهمّ اجعل ابني مثل هذا . فقال الصبيّ : اللهمّ لا تجعلني مثله ، ثم مرّ بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللهمّ لا تجعل ابني مثل هذه . فقال الصبيّ : اللهمّ اجعلني مثلها . فقالت له أمّه في ذلك ، فقال : إنّ الراكب جبار من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإنّ هذه قيل لها زنيت ولم تزن وقيل له سرقت ولم تسرق وهي تقول : حسبي الله فأحببت أن أكون مثلها " .
ومنها خبر الغار وهو مشهور في الصحيح عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدّت عليهم باب الغار » وقد ذكرت ذلك عند قوله تعالى : { كانوا من آياتنا عجباً } [ الكهف ، 9 ] . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره » . ولم يفرق من شيء وشيء فيما يقسم به على الله تعالى . ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها التفتت البقرة ، وقالت : إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس : سبحان الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بهذا وأبو بكر وعمر » . ومنها ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال : فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له : ما اسمك ؟ قال : فلان ابن فلان قلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن ذلك . قلت : لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال : أمّا إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً » .
وأمّا الآثار فكثيرة أيضاً ولنبدأ منها ببعض ما نقل أنه ظهر على يد الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم ببعض ما ظهر على يد بعض الصحابة . أمّا أبو بكر رضي الله تعالى عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله ، هذا أبو بكر بالباب فإذا بالباب قد فتح وإذا بهاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب ، وأمّا عمر رضي الله تعالى عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته النوع الأوّل ما روي أنه لما بعث جيشاً وأمرّ عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينما عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل . قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كتبت تاريخ هذه الكلمة فلما قدم رسول ذلك الجيش فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزم الله تعالى الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت . قال الرازي : قلت سمعت بعض المذكرين قال : كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر : «أنتما بمنزلة السمع والبصر » ، فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلم لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم .
النوع الثاني : ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة فكان لا يجري حتى تلقى فيه جارية حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص إلى عمر فكتب عمر على خرقة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت إنما تجري بأمرك لا حاجة بنا إليك فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك .
النوع الثالث : لما وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر بالدرّة على الأرض وقال : اسكني بأذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الوقت .
النوع الرابع : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة يا نار اسكني بأذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال .
النوع الخامس : ما روي أنّ رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظنّ أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر وضع درّته تحت رأسه ونام على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال أهل المشرق والمغرب يخافون هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ثم قال في نفسه إن وجدته خالياً فاقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله تعالى من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم . قال الرازي : وأقول هذه الواقعة رويت بالآحاد وهاهنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وغلب الممالك والدول ولو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أوّل عهد عمر إلى الآن ما تيسر له ، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أنّ هذا من أعظم الكرامات .
وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة ، منها ما روي عن أنس قال : سرت في الطريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلتُ على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا ولكن فراسة صادقة ، ومنها أنه لما طعن بالسيف فأوّل قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة ، 137 ] . ومنها أنّ جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان فكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته .
وأما علي رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة أيضاً ، منها ما روي أنّ واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى عليّ فقال : أسرقت ؟ فقال : بلى . فقطع يده فانصرف من عند علي فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء . فقال ابن الكواء : من قطع يدك ؟ فقال له : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول . فقال له سلمان : قطع يدك وتمدحه . فقال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار ، فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ، ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء : ارفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برئت .
وأما ما روي عن بعض الصحابة فشيء كثير ، ونذكر منها شيئاً قليلاً ، منها ما روى محمد بن المنكدر عن سفينة قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها ، وركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إليّ يريدني فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فتقدّم الأسد إليّ ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودّعني ورجع .
ومنها ما روى ثابت عن أنس أنّ أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدّثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وكان في يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما افترقت بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى حتى بلغ منزله . ومنها ما روي أنه قيل لخالد بن الوليد أنّ في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه خمر فقال : ما هذا ؟ قال : خل . فقال خالد : اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى أصحابه فقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثله فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل فقال : والله هذا دعاء خالد . ومنها الواقعة المشهورة وهي أنّ خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضرّه .
ومنها ما روي أنّ ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ، ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء . ومنها ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث العلاء الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء . وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحدّ والحصر فمن أرادها طالعها .
وأما الدلائل العقلية على جواز الكرامات فمن وجوه : الأوّل : أنه صلى الله عليه وسلم قال حاكياً عن رب العزة : «من آذى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة » فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة : «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، استسقيتك فما سقيتني ، استطعمتك فما أطعمتني ، فيقول : يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول : إنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي » . وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أنّ أولياء الله يبلغون هذه الدرجات العالية والمراتب الشريفة . فإذا جاز اتصال العبد إلى هذه الدرجات فأيّ بعد أن يعطيه الله تعالى كسرة خبز أو جرعة ماء أو يسخر له كلباً أو دودة .
الوجه الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قال عن رب العزة : «ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترض عليه ، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً ولساناً ويداً ورجلاً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي » . وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله تعالى لما قال : أنا سمعه وأنا بصره ، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع ، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة من الماء في مفازة .
الوجه الثالث : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر . والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه .
واحتج المنكر للكرامات بوجوه : الأوّل : أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلاً على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة .
الوجه الثاني : أنّ الله تعالى قال : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } [ النحل ، 7 ] .
والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد .
الوجه الثالث : أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهماً واحداً فهل يطلب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثاً لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدّعي » . فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل ، وأجيب عن الأوّل بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية ؟ فقال قوم من المحققين إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة ، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره ، والكرامة لا يجب ظهورها ، وأجيب عن الثاني بأنّ قوله تعالى : { وتحمل أثقالكم } إلى آخره محمول على المعهود المتعارف ، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف ، وأجيب عن الثالث بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدّعي » . ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفاً وجلاً ولهذا قال المحققون : أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء .
والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه : الأوّل : أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور . الوجه الثاني : أنّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ، ومن كان لعمله وقع عظيم في قلبه كان جاهلاً إذ لو عرف ربه لعلم أنّ كل طاعات الخلق في جنب جلاله تقصير وكل شكر في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل .
وجدت في بعض الكتب أنه قرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر ، 10 ] فقال : علامة أنّ الحق رفع عملك أن لا يبقى عندك مرتقى عملك في نظرك ، فإن بقي عملك في نظرك فهو غير مرفوع وإن لم يبق عملك في نظرك فهو مرفوع مقبول . الوجه الثالث : أنّ صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتضرّع في حضرة الله تعالى ، فإذا ترفع وتكبر وتجبر بسبب الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق يؤدّي ثبوته إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر ، أي : لا أفخر بهذه الكرامات ، وإنما أفخر بالمكرم والمعطي . الوجه الرابع : أنه تعالى وصف عباده المخلصين بقوله تعالى : { ويدعوننا رغباً } [ الأنبياء ، 90 ] ، أي : في ثوابنا { ورهباً } ، أي : من عذابنا . وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من عقابنا . قال بعض المحققين : والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً عنا ، وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب ، جعلنا الله تعالى وأحبابنا من أهل ولايته بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته .