السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

{ فكلي } أي : من الرطب { واشربي } من السري أو كلي من الرطب واشربي من عصيره ، { وقرّي عيناً } أي : وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنها ، وقدّم الأكل على الشرب لأن حاجة النفساء إلى الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدم .

فإن قيل : إن مضرة الخوف أشدّ من مضرة الجوع والعطش لأن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن ، روي أنه أجيعت شاة فقدّم إليها علف وعندها ذئب فبقيت الشاة مدّة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها خوفاً من الذئب ، ثم كسر رجلها وقدم إليها العلف فتناولت العلف مع ألم البدن فدل ذلك على أن ألم الخوف أشدّ من ألم البدن ، وإذا كان كذلك فلم قدّم ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف ؟

أجيب : بأنّ هذا الخوف كان قليلاً لأنّ بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدّمت فما كانت تحتاج إلا إلى التذكير مرة أخرى ، وقيل : قرّي عيناً بولدك عيسى وقيل : بالنوم فإنّ المهموم لا ينام ، وقوله : { فإمّا } فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة { ترينّ } حذفت منه لام الفعل وعينه وألقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لالتقاء الساكنين ، { من البشر أحداً } ينكر عليك { فقولي } يا مريم لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه ، { إني نذرت للرحمن } أي : الذي عمت رحمته { صوماً } أي : إمساكاً عن الكلام في شأنه وغيره مع الإناسي بدليل { فلن أكلم اليوم إنسياً } فإنّ كلامي يقبل الردّ والمجادلة ، ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع وأمّا أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء ، قالوا : ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر .

وقيل : صياماً لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم ، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا ؟ قال القفال : لعله يجوز لأنّ الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر بذكر اللّه تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس ، وروي أنه دخل أبو بكر رضي اللّه عنه على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إنّ الإسلام قد هدم هذا فتكلمي .

تنبيه : اختلفوا في أنها هل قالت لهم : { إني نذرت للرحمن صوماً } ؟ فقال قوم : إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأنها تأتي بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها سكتت وأشارت برأسها وقال آخرون : إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم أنها نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا بعد هذا الكلام .