السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

{ هو الذي أنزل عليك } يا محمد { الكتاب } أي : القرآن { منه آيات محكمات } أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة { هنّ أمّ الكتاب } أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب ؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد . وقيل : كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى : { وجعلنا ابن مريم وأمّه آية } ( المؤمنون ، 50 ) أي : كل واحد منهما آية وقوله تعالى : { وأخر } نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر { متشابهات } أي : محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر .

فإن قيل : لم جعل بعضه متشابهاً وهلا كان كله محكماً ؟ أجيب : بأن في المتشابه من الابتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها ، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله .

فإن قيل : لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع آخر فقال { الر كتاب أحكمت آياته } ( هود ، 1 ) وجعل كله متشابهاً في موضع آخر فقال { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } ( الزمر ، 23 ) أجيب : بأنه حيث جعل الكل محكماً فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ . وحيث جعل الكل متشابهاً فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ .

تنبيه : أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف ؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف { فأمّا الذين في قلوبهم زيغ } أي : ميل عن الحق كالمبتدعة { فيتبعون ما تشابه منه } أي : فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل { ابتغاء الفتنة } أي : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه { وابتغاء تأويله } أي : وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه { وما يعلم تأويله } أي : الذي يجب أن يحمل عليه { إلا الله والراسخون في العلم } أي : الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع . وقال غيره : هو من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله تعالى ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه .

تنبيه : اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله { والراسخون } واو العطف أي : أنّ تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم { يقولون آمنا به } وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله : { يقولون } حالاً معناه والراسخون في العلم قائلين : آمنا به ، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله : والراسخون واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } وهو قول أبي بن كعب وعائشة وغيرهما وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، وعدد الزبانية ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به ، وفي المحكم بالإيمان به والعمل . وقال عمر بن عبد العزيز في هذه انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به قال في «الكشاف » : والأوّل هو الأوجه اه .

ووجهه شيخنا القاضي زكريا بقوله : لأنّ المتشابه على الثاني يصير الخطاب به كالخطاب بالمهملات اه .

ومع هذا فالوجه هو الثاني ؛ لأنه أشبه بظاهر الآية ويدل له وجوه : أحدها أنه ذمّ طالب المتشابه بقوله تعالى : { فأمّا الذين في قلوبهم زيغ } الآية وثانيها : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون : آمنا به وقال في أوّل البقرة : { فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } ( البقرة ، 26 ) فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ؛ لأنّ كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فلا بد أن يؤمن به وثالثها : لو كان قوله والراسخون معطوفاً لصار قوله : يقولون آمنا به ابتداء وهو بعيد عن الفصاحة ، وكان الأولى أن يقال وهم يقولون أو يقال ويقولون .

فإن قيل : في تصحيحه وجهان : الأوّل : أن يقولون خبر مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا . الثاني : أن يكون يقولون حالاً من الراسخون . أجيب : بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى ، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله : آمنا به حالاً من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر ، ورابعها : قوله تعالى : { كل } أي : من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة ، وخامسها : نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحداً جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } ( طه ، 5 ) فقال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .

فإن قيل : ما الفائدة في لفظ عند ، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود ؟ أجيب : بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد .

فإن قيل : لم حذف المضاف إليه من كل ؟ أجيب : بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل { وما يذكر } بإدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما في القرآن { إلا أولو الألباب } أي : أصحاب العقول .

تنبيه : وجه اتصال هذه الآية وأوّلها { هو الذي أنزل عليك الكتاب } بما قبلها وأوّلها { هو الذي يصوّركم في الأرحام } أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان : جسماني وروحاني ، فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى : { هو الذي يصوّركم في الأرحام } وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } .

ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : آمنا به حكى أنهم يقولون :