السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة وكان المقصود منها أثرها لا عينها نفاه بقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده } أي : فلا تنفعهم شفاعة كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله { إلا لمن أذن له } أي : وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة ، أو أكثر في أن يشفع في غيره وفي أن يشفع فيه غيره ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة والباقون بفتحها وقوله تعالى : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } غاية لمفهوم الكلام من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملئ من الزمان وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دل عليها قوله عز من قائل { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطاباً ( 37 ) يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صواباً } ( النبأ : 37 38 )

كأنه قيل : يتوقعون ويتربصون ملياً فزعين ذاهلين حتى إذا فزع عن قلوبهم أي : كشف الفزع عن قلوبهم أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن { قالوا } أي : قال بعضهم لبعض { ماذا قال ربكم } أي : في الشفاعة ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن بذلك قلوبهم { قالوا } قال : القول { الحق } أي : الثابت الذي لا يمكن أن يبدل ، بل يطابق الواقع فلا يكون شيء يخالفه وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى منهم وهم المؤمنون { وهو العلي الكبير } أي : ذو العلو فلا رتبة إلا دون رتبته ، والكبرياء فليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه ، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء صفقت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : { ماذا قال ربكم } قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء » وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر وتكلم بالوحي أخذت السماء رجفة ، أو قال : رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل : فيقول جبريل عليه السلام { قال الحق وهو العلي الكبير } فيقولون كلهم مثل ما يقول جبريل عليه السلام ، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله تعالى » وقال مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل : ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً ، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم كلم جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمداً صلى الله عليه وسلم عند أهل السماوات من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض { ماذا قال ربكم قالوا الحق } يعني الوحي { وهو العلي الكبير } وقال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة عليهم السلام : ماذا قال ربكم في الدعاء قالوا : الحق فأقروا به حيث لم ينفعهم الإقرار .