السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَالِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (22)

وقوله تعالى : { وما لي لا أعبد الذي فطرني } أصله : وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد : تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال { وإليه ترجعون } دون وإليه أرجع مبالغة في التهديد وفي العدول عن مخاصمة القوم إلى حال نفسه مبالغة في الحكمة ، وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم لم يكن في البيان مثل قوله : ما لي ؛ لأنه لما قال : ما لي فأحد لا يخفى عليه حال نفسه ، علم كل واحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد ؛ لأنه أعلم بحال نفسه وقوله { الذي فطرني } أشار به إلى وجود المقتضى فإن قوله : { ما لي } إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله { الذي فطرني } دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيمان ، والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته ، وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي ، لأن المقتضي لظهوره كان مستغنياً عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه ، واختار من الآيات فطرة نفسه ؛ لأن خالق عمرو يجب على زيد عبادته ؛ لأن من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف ، لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً .

تنبيه : أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم ؛ لأن الفطرة أثر النعمة فكانت عليه أظهر ، وفي الرجوع معنى الزجر فكان بهم أليق ، روي أنه لما قال { اتبعوا المرسلين } أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له : أفأنت تتبعهم ؟ فقال { وما لي لا أعبد الذي فطرني } أي : أي : شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون ، تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم ومعنى فطرني : خلقني اختراعاً ابتداء ، وقيل : خلقني على الفطرة كما قال تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ( الروم : 30 ) .