السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

{ وإن خفتم } أي : خشيتم { أن لا تقسطوا } أي : تعدلوا { في اليتامى } فتحرّجتم من أمورهم فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات { فانكحوا ما طاب } أي : حلّ { لكم من النساء } ؛ لأنّ منهنّ ما حرم كاللاتي في آية التحريم { مثنى وثلاث ورباع } أي : تزوّجوا اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ؛ لأنّ من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ؛ لأنه إنما وجب أن يتحرّج من الذنب ويتاب عنه لقبحه ، والقبح قائم في كل ذنب وإنما عبر عنهنّ بما ومن يعقل إنما يعبر عنه بمن ذاهباً إلى الصفة ؛ لأنه إنما يفرق بين من وما في الذوات لا في الصفات أو أجراهنّ مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهنّ ، وقيل : كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى ، فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تجولوا حول المحرّمات ، وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال فيتزوّجها ضناً أي : بخلاً بها فربما يجتمع عنده منهنّ عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ .

فإن قيل : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع حتى إنّ بعض الرافضة قال : للشخص أن يتزوّج بثمانية عشر ؟ أجيب : بأنّ الخطاب للجمع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى .

فإن قيل : لم جاء العطف بالواو دون أو حتى قال بعض الرافضة : إنّ له أن يتزوج بتسعة ؟ أجيب : بأنه لو عطف بأو لذهب معنى تجويز أنواع الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليها الواو { فإن خفتم أن لا تعدلوا } بين هذه الأعداد أيضاً بالقسم والنفقة { فواحدة } أي : فانكحوا واحدة وذروا الجمع { أو ما ملكت أيمانكم } أي : اقتصروا على ذلك سواء بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري ؛ لخفة مؤنتهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ .

تنبيه : هذا في حق الحر أما من فيه رق فلا يتزوّج أكثر من ثنتين بإجماع الصحابة وقد يعرض للحر عوارض لا يزاد فيها على واحدة كجنون أو سفه { ذلك } أي : نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري { أدنى } أقرب إلى { أن لا تعولوا } أي : تجوروا ، يقال : عال الحاكم في حكمه إذا جار .

وروي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول علي وقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أن لا تعولوا ، أن لا تجوروا ) ، وحكي عن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنه فسر «أن لا تعولوا » بأن لا تكثروا عيالكم قال البغويّ : وما قاله أحد إنما يقال : من كثرة العيال أعال يعيل إعالة إذا كثرت عياله ، وقال الزمخشريّ : ووجهه أن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، ثم قال : وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً . وكان الشافعيّ رحمه الله تعالى أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا اه .