السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

{ وقالت اليهود والنصارى } أي : كل طائفة قالت على حِدَتِها { نحن أبناء الله وأحباؤه } اختلف المفسرون في معنى ذلك على أربعة أوجه ، أحدها : أنّ هذا من باب حذف المضاف أي : نحن أبناء رسل الله كقوله تعالى : { إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } ( البقرة ، 10 ) الثاني : إن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب قد يطلق أيضاً على من اتخذ ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة ، فالقوم لما ادعوا عناية الله بهم ادعوا أنهم أبناء الله . الثالث : إنّ اليهود زعموا أنّ العزير ابن الله ، والنصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ثم زعموا أنّ العزير والمسيح كانا منهم فصار كأنهم قالوا : نحن أبناء الله ألا ترى أنّ أقارب الملك إذا فاخروا أحداً يقولون : نحن ملوك الدنيا والمراد كونهم مختصين بالشخص الذي هو الملك فكذا هنا ، الرابع : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم من عقاب الله فقالوا : كيف تخوّفنا بعذاب الله ونحن أبناء الله تعالى وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة ، وأمّا النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل أنّ المسيح قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وقيل : أرادوا أنّ الله كالأب لنا في الحنو والعطف ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي : إنّ اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري فبدلوه بيا أبناء أبكاري فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .

وجملة الكلام : إنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم من الأنبياء إلى أن ادعوا ذلك .

{ قل } لهم يا محمد { فلم يعذبكم بذنوبكم } أي : فإن صحّ ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم ولا يعذب الأب ولده ولا الحبيب حبيبه وقد عذّبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودة ، وقرأ البزّي في الوقف فَلِمَهْ بخلاف عنه { بل أنتم بشر من } جملة { من خلق }ه الله تعالى من البشر لكم ما لهم وعليكم ما عليهم { يغفر لمن يشاء } أي : ممن خلقه منكم ومن غيركم تفضلاً منه تعالى { ويعذب من يشاء } كذلك كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين لا اعتراض عليه ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام من يغفر والياء في الميم من يعذب بخلاف عنه ورقق ورش الراء على أصله { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } أي : وأنتم مما بينهما فمن كان هكذا وقدرته هكذا كيف يستحق عليه البشر الضعيف حقاً واجباً وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته الناقصة ديناً لازماً { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } ( الكهف ، 5 ) ثم قال : { وإليه المصير } أي : المرجع فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .