السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

{ وإذا رأيتهم } أي : أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة ، أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصر { تعجبك أجسامهم } لضخامتها وصباحتها ، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم ، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق .

قال ابن عباس : كان ابن أبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ويستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم { وإن يقولوا } أي : يوجد منهم قول في وقت من الأوقات { تسمع لقولهم } أي : لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر { كأنهم } أي : في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم ، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء { خشب } جمع كثرة لخشبة ، وهو دليل على كثرتهم { مسندة } أي : قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار . وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين ، والباقون بضمها { يحسبون } أي : لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم { كل صيحة } أي : من نداء مناد في إنشاد ضالة ، أو انفلات دابة ، أو نحو ذلك واقعة { عليهم } وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم . ومنه أخذ الأخطل :

مازلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلا تكرّ عليهم ورجالاً

ومنه قول الآخر :

كأنّ بلاد الله وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفة حابل

يخال إليه أنّ كل ثنية *** تيممها ترمي إليه بقاتل

{ هم العدوّ } أي : الكامل العداوة بما دل عليه الأخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع ، إشارة إلى إنهم في شدّة عداوتهم للإسلام وأهله ، وكمال قصدهم وشدّة سعيهم فيه على قلب رجل واحد ، وإن أظهروا التودّد في الكلام ، والتقرّب به إلى أهل الإسلام فإنّ ألسنتهم معكم إذا لقوكم ، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم فهم عيون لهم عليكم { فاحذرهم } لأنّ أعدى عدوّك من يعاشرك وتحت ضلوعه الداء لكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسرّ قوله تعالى : { قاتلهم الله } أي : أحلهم الملك المحيط قدرة وعلماً محل من يقاتله عدوّ قاهر له أشدّ مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين .

وقال ابن عباس : أي لعنهم الله ، وقال أبو مالك : هي كلمة ذم وتوبيخ ، وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب { أنى } أي : كيف ، ومن أيّ جهة { يؤفكون } أي : يصرفهم عن قبح ما هم عليه صارف ما كائن ما كان ليرجعوا عما هم عليه ، وقال ابن عباس : أنى يؤفكون ، أي : يكذبون ، وقال مقاتل : أي : يعدلون عن الحق ، وقال الحسن : يصرفون عن الرشد ، وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل ، وهو من الإفك .