السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

وعن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها ، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً » وفي رواية «أنا فيهم » فأنزل الله تعالى : { وإذا رأوا تجارة } أي : حمولاً هي موضع للتجارة { أو لهواً } أي : ما يلهي عن كل نافع { انفضوا } أي : نفروا متفرقين من العجلة { إليها } أي : التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو ، وأيضاً العطف بأو فإفراد الضمير أولى . وقال الزمخشري : تقديره : إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه . وذكر الكلبي وغيره : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فخرج الناس إلا اثنى عشر رجلاً ، وقيل : أحد عشر رجلاً ، وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط . وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام ، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، فلما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً » .

وقال مقاتل بن حيان ، ومقاتل بن سليمان : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه ، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لولا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء » وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل .

وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق . وقال علقمة : سئل عبد الله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً فقال : أما تقرأ { وتركوك قائماً } وعن جابر بن عبد الله قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس » وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقاً لفضلهم أن لا يفعلوا ، فقال : حدثنا محمد بن خالد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له : دحية بن خليفة قدم بتجارة ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة الخطبة وأخر الصلاة ، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده ، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستتراً به حتى يخرج فأنزل الله تعالى : { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً } [ النور : 63 ] الآية » . قال السهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحاً وقال قتادة : وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة .

وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير ، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر ، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل . وقوله تعالى : { وتركوك } أي : تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً ، قال جابر : أنا أحدهم { قائماً } جملة حالية من فاعل انفضوا ، وقد مقدرة عند بعضهم .

تنبيه : في قوله تعالى : { قائماً } تنبيه على مشروعيته في الخطبتين ، وهو من الشروط للقادر على القيام ، وأما أركانهما فخمسة : حمد الله تعالى ، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظهما ، ووصية بتقوى الله ، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين ، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى ، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية ، ومن الشروط كونهما عربيتين ، وكونهما في الوقت ، وولاء ، وطهر ، وستر كالصلاة { قل } يا أشرف الخلق للمؤمنين { ما عند الله } أي : المحيط بجميع صفات الكمال { خير } ما موصولة مبتدأ وخير خبرها { من اللهو ومن التجارة } والمعنى : ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم ، وفائدة تجارتكم . وقيل : ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم { والله } أي : ذو الجلال والإكرام وحده { خير الرازقين } أي : خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة .

ختام السورة:

وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال : «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين » حديث موضوع .