إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة بني إسرائيل مكية إلا الآيات 26-32-33 و 57 ، ومن الآية 73 إلى الآية 80 فمدنية . وآياتها 111 .

{ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } سبحان علمٌ للتسبيح كعثمانَ للرجل وحيث كان المسمّى معنى لا عيناً ، وجنساً لا شخصاً لم تكن إضافتُه من قبيل ما في : زيدُ المعارك أو حاتمُ طيْءٍ ، وانتصابه بفعل متروكِ الإظهار تقديرُه أسبح الله سبحان الخ ، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ، ومنه فرسٌ سَبوحٌ أي واسعُ الجري ، ومن جهة النقلِ إلى التفعيل ، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوعِ له خاصة لاسيما وهو علمٌ يشير إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة قيامِه مَقام المصدر مع الفعل ، وقيل : هو مصدرٌ كغفران بمعنى التنزه ، ففيه مبالغةٌ من حيث إضافةُ التنزه إلى ذاته المقدسةِ ومناسبةٌ تامة بين المحذوف وبين ما عُطف عليه في قوله سبحانه وتعالى ، كأنه قيل : تنزه بذاته وتعالى . والإسراءُ السيرُ بالليل خاصة كالسُّرى وقوله تعالى : { لَيْلاً } لإفادة قلةِ زمان الإسراءِ لِما فيه من التنكير الدالِّ على البعضية من حيث الأجزاءُ دَلالتَه على البعضية من حيث الأفراد ، فإن قولك : سِرت ليلاً كما يفيد بعضيةَ زمان سيرِك من الليالي يفيد بعضيتَه من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت : سرتُ الليلَ فإنه يفيد استيعابَ السير له جميعاً ، فيكون معياراً للسير لا ظرفاً له ويؤيده قراءةُ ( من الليل ) أي بعضِه ، وإيثارُ لفظ العبدِ للإيذان بتمحّضه عليه الصلاة والسلام في عبادته سبحانه وبلوغِه في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ ونهايةَ النهاياتِ النائية حسبما يلوّح به مبدأُ الإسراء ومنتهاه ، وإضافةُ التنزيه أو التنزّه إلى الموصول المذكورِ للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ للمضاف فإن ذلك من أدلة كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه ونهايةِ تنزهه عن صفات المخلوقين .

{ مّنَ المسجد الحرام } اختُلف في مبدأ الإسراءِ فقيل : هو المسجدُ الحرام بعينه وهو الظاهرُ ، فإنه رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « بينا أنا في المسجد الحرام في الحِجْر عند البيت بين النائم واليقظانِ إذْ أتاني جبريلُ عليه الصلاة والسلام بالبُراق » وقيل : هو دارُ أم هانئ بنتِ أبي طالب ، والمراد بالمسجد الحرام الحرمُ لإحاطته بالمسجد والْتباسِه به ، أو لأن الحرم كلَّه مسجد ، فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاءِ فكان ما كان فقصّه عليها ، فلما قام ليخرُج إلى المسجد تشبّثتْ بثوبه عليه الصلاة والسلام لتمنعه خشية أن يكذبه القومُ ، قال عليه الصلاة والسلام : « وإن كذبوني » فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراءِ فقال أبو جهل : يا معشر كعبِ بنِ لؤي بنِ غالب ، هلُمّ فحدِّثْهم فمن مصفّق وواضعٍ يدَه على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتد ناسٌ ممن كان آمن به ، وسعى رجالٌ إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدّقه على ذلك ؟ قال : إني أصدقه على أبعدَ من ذلك ، فسُمِّيَ الصِّديقُ وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجدَ فجُلِّي له بيتُ المقدس فطفِق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعتُ فقد أصابه .

فقالوا : أخبِرْنا عن عِيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالِها وأحوالها وقال : { تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمُها جملٌ أورَقُ }{[494]} فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم : هذه والله الشمسُ قد أشرقت ، فقال آخرُ : هذه والله العِيرُ قد أقبلت يقدمها جملٌ أورقُ كما قال محمد ، ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنى يؤفكون .

واختُلف في وقته أيضاً ، فقيل : كان قبل الهجرةِ بسنة ، وعن أنس والحسنِ أنه قبل البعثة ، واختلف أيضاً أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه كان في المنام ، وأكثرُ الأقاويل بخلافه ، والحق أنه كان في المنام قبل البعثة وفي اليقظة بعدها ، واختُلف أيضاً أنه كان جُسمانياً أو روحانياً ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما فُقِد جسدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولكن عُرج بروحه . وعن معاوية أنه قال : إنما عُرج بروحه ، والحقُّ أنه كان جُسمانياً على ما ينبئ عنه التصديرُ بالتنزيه وما في ضمنه من التعجب ، فإن الروحانيَّ ليس في الاستبعاد والاستنكار وخرقِ العادةِ بهذه المثابة ، ولذلك تعجبت منه قريشٌ وأحالوه ولا استحالة فيه ، فإنه قد ثبت في الهندسة أن قُطرَ الشمس ضِعفَ قطرِ الأرض مائة ونيفاً وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفلَ يصل إلى موضع طرفِها الأعلى بحركة الفَلك الأعظمِ مع معاوقة حركةِ فلكِها لها في أقلَّ من ثانية ، وقد تقرر أن الأجسام متساويةٌ في قَبول الأعراضِ التي من جملتها الحركةُ وأن الله سبحانه قادرٌ على كل ما يحيط به حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق تلك الحركةَ بل أسرعَ منها في جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمِله ولو لم يكن مستبعداً لم يكن معجزة { إلى المسجد الأقصى } أي بيتِ المقدس ، سُمي به إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجدٌ وفي ذلك من تربية معنى التنزيهِ والتعجّب ما لا يخفى { الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبِطُ الوحي ومتعبَّدُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام { لِنُرِيَهُ } غايةٌ للإسراء { مِنْ آياتنا } العظيمةِ التي من جملتها ذهابُه في برهة من الليل مسيرةَ شهرٍ ، ولا يقدح في ذلك كونُه قبل الوصول إلى المقصِد ومشاهدةِ بيت المقدس وتمثّل الأنبياءِ له ووقوفِه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام ، والالتفاتُ إلى التكلم لتعظيم تلك البركاتِ والآياتِ ، وقرئ ليريَه بالياء { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقواله عليه الصلاة والسلام بلا أذن { البصير } بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذِنُ به القصرُ فيكرمُه ويقرّبه بحسب ذلك ، وفيه إيماءٌ إلى أن الإسراءَ المذكورَ ليس إلا لتكرمته عليه الصلاة والسلام ورفعِ منزلتِه وإلا فالإحاطةُ بأقواله وأفعاله حاصلةٌ من غير حاجة إلى التقريب ، والالتفاتُ إلى الغَيبة لتربية المهابة .


[494]:الأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد.