إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً } ، أي : مثلاً آخرَ يدل على ما دل عليه المثلُ السابقُ على وجه أوضحَ وأظهرَ ، وبعد ما أبهم ذلك لتنتظرَ النفسُ إلى وروده وتترقبه حتى يتمكّن لديها عند ورودِه [ فضل تمكن ] بيّن فقيل : { رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } ، وهو من وُلد أخرسَ { لاَّ يَقْدِرُ على شَيء } من الأشياء المتعلّقةِ بنفسه أو بغيره ، بحدْس أو فراسة ؛ لقِلة فهمِه وسوءِ إدراكِه . { وَهُوَ كَلٌّ } ، ثِقَلٌ وعِيالٌ { على مَوْلاهُ } ، على مَن يعوله ويلي أمرَه ، وهذا بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ نفسه بعد ذكر عدم قدرتِه على شيء مطلقاً ، وقوله تعالى : { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ } ، أي : حيث يرسله مولاه في أمر ، بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ مولاه ولو كانت مصلحةً يسيرة ، وقرئ على البناء للمفعول ، وعلى صيغة الماضي من التوجه ، { لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } ، بنُجْح وكفايةِ مُهمّ البتةَ .

{ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ } ، مع ما فيه من الأوصاف المذكورةِ ، { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } ، أي : مَنْ هو مِنطيقٌ فهِمٌ ذو رأي وكفاية ورشد ، ينفع الناسَ بحثهم على العدل الجامع لمجامعِ الفضائل ، { وَهُوَ } في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } . ومقابلةُ الصفاتِ المذكورة عدمُ استحقاقِ المأمورية ، وملخصُ هذين استحقاقُ كمالِ الآمرية المستتبِعِ لحيازة المحاسنِ بأجمعها ، وتغييرُ الأسلوب ، حيث لم يقل : والآخر آمرٌ بالعدل الآية ، لمراعاة الملاءمةِ بينه وبين ما هو المقصودُ من بيان التبايُنِ بين القرينتين . واعلم أن كلاًّ من الفعلين ليس المرادُ بهما حكايةَ الضربِ الماضي ، بل المرادُ إنشاؤُه بما ذُكر عَقيبه ، ولا يبعُد أن يقال : إن الله تعالى ضرب مثلاً بخلق الفريقين على ما هما عليه ، فكان خلقُهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون ، فيكون كلٌّ من الفعلين حكايةً للضرب الماضي .