إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (75)

{ ضَرَبَ الله مَثَلاً } ، أي : ذكر وأورد شيئاً يُستدل به على تباين الحالِ بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به ، وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جلياً ، { عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيء } ، بدلٌ من مثلاً وتفسيرٌ له ، والمثَلُ في الحقيقة حالتُه العارضة له من المملوكية والعجزِ التامّ ، وبحسَبها ضربُ نفسِه مثلاً ، ووصفُ العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر ؛ لاشتراكهما في كونهما عبدين لله سبحانه ، وقد أُدمج فيه أن الكل عبيدٌ له تعالى ، وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتَب والمأذون ، اللَّذين لهما التصرّف في الجملة ، وفي إبهام المثلِ أولاً ثم بيانِه بما ذكر ، ما لا يخفى من الفخامة والجزالة ، { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } ، " مَنْ " ، موصوفةٌ معطوفة على عبداً أي : رزقناه بطريق المُلك ، والالتفاتُ إلى التكلم ؛ للإشعار باختلاف حالَيْ ضرب المثل والرزق ، { مِنَّا } ، من جنابنا الكبير المتعالي ، { رِزْقًا حَسَنًا } ، حلالاً طيباً أو مستحسَناً عند الناس مرضياً ، { فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ } ، تفضّلاً وإحساناً ، والفاءُ لترتيب الإنفاق على الرزق ، كأنه قيل : ومَنْ رزقناه منا رزقاً حسناً فأنفق ، وإيثارُ ما عليه النظم الكريم من الجملة الاسميةِ الفعليةِ الخبر ؛ للدلالة على ثبات الإنفاقِ واستمرارِه التجدديّ ، { سِرّا وَجَهْرًا } ، أي : حالَ السر والجهر ، أو إنفاقَ سر وإنفاقَ جهر ، والمرادُ : بيانُ عمومِ إنفاقِه للأوقات ، وشمولِ إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهراً ، والإشارةُ إلى أصناف نعمِ الله تعالى الباطنةِ والظاهرةِ ، وتقديمُ السر على الجهر للإيذان بفضله عليه ، والعدولُ عن تطبيق القرينيتن ، بأن يقال : وحرًّا مالكاً للأموال ، مع كونه أدلَّ على تباين الحالِ بينه وبين قسميه ؛ لتوخّي تحقيقِ الحقِّ بأن الأحرارَ أيضاً تحت ربقة عبوديتِه سبحانه وتعالى ، وأن مالكيتَهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزُقَهم الله تعالى إياه ، من غير أن يكون لهم مدخلٌ في ذلك ، مع محاولة المبالغة في الدِلالة على ما قُصد بالمثل ، من تباين الحالِ بين الممثَّلين : فإن العبدَ المملوك حيث لم يكن مثلَ العبد المالكِ ، فما ظنُّك بالجماد ومالكِ المُلك خلاّق العالمين ! ! ! .

{ هَلْ يَسْتَوُونَ } ، جمعُ الضمير ؛ للإيذان بأن المرادَ بما ذكر : مَن اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين ، لا فردان معينان منهما ، أي : يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات ، مع أن الفريقين سيانِ في البشرية والمخلوقية لله سبحانه ، وأن ما ينفقه الأحرارُ ليس مما لهم دخلٌ في إيجاده ولا في تملكه ، بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم ، فحيث لم يستوِ الفريقان ، فما ظنُّكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليلَ أذلُّ منه ، وهو : الأصنام ، { الحمد للَّهِ } ، أي : كلُّه له ؛ لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحدٌ غيرُه ، وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلاً عن استحقاق العبادة ، وفيه إرشادٌ إلى ما هو الحقُّ من أنّ ما يظهر على يد مَنْ ينفق مما ذكر ، راجعٌ إليه سبحانه كما لوح به قوله تعالى : { رَّزَقْنَاهُ } ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، ما ذكر فيُضيفون نعمَه تعالى إلى غيره ، ويعبدونه لأجلها ، ونفيُ العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك ، وإنما لا يعملون بموجبه عناداً كقوله تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَة الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } .