إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

{ لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نجْوَاهُمْ } أي في كثير من تناجي الناسِ { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ { بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ } وقيل : المرادُ بالنجوى المتناجون بطريق المجازِ ، وقيل : النجوى جمع نُجا نقله الكرماني وأياً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ ، ففي نجواه الخير . والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ ، وقد فُسِّر هاهنا بالقَرْض وإغاثةِ الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن المرادَ بالصدقة الصدقةُ الواجبة { أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس } عند وقوعِ المُشاقّةِ والعِداءِ بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ ، وبين إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ ، يقال : أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ . عن أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله تعالى عنه ( أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له : «ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حُمْرِ النَّعَم » ، قال : بلى يا رسول الله ، قال : «تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا » ، قالوا : ولعل السرَّ في إفراد هذه الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ ، والمنفعةُ إما جُسمانية كإعطاء المالِ وإليه الإشارةُ بقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } [ النساء ، الآية : 114 ] وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ بالأمر بالمعروف ، وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى : { أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس } [ النساء ، الآية : 114 ] . { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني الصدقةَ والمعروفَ والإصلاحَ فإنه يشار به إلى متعدد ، وما فيه من معنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها ورفعةِ شأنِها ، وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ فخيريةُ فعلِها أثبتُ ، وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل : ومن يأمْر بها ، والكلامُ في ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباعَ الأمرِ بها الأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعةً [ وسبباً ] إلى فعلها فاستتباعُه له أولى وأحقُّ . { ابتغاء مَرْضَاة الله } علةٌ للفعل ، والتقييدُ به لأن الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ به غيرَ الحِرْمان { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } بنون العظمةِ على الالتفاتِ وقرئ بالياء { أَجْراً عَظِيماً } يقصُر عنه الوصفُ .