إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

{ وَقَالَتِ اليهود } قال ابن عباس وعكرمة والضحاك : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ عليهم ، فعند ذلك قال فِنْحاصُ بنُ عازوراء : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى الكل كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً ، وإنما القاتل واحدٌ منهم وأرادوا بذلك ، لعنهم الله أنه قال : مُمسك يقتِّر بالرزق ، فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلٍّ أو بسطٍ ، ألا يُرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قوله : [ الكامل ]

جاد الحمى بَسْطَ اليدين بوابلٍ *** شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ

وقد سلك لبيدٌ المسلكَ السديد حيث قال : [ الكامل ]

وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقَرَّة *** إذْ أصبَحَتْ بيد الشَّمال زِمامُها{[176]}

فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة للشَّمال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يداً ولا للقرّة زماماً ، وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } في سورة آل عمران [ الآية : 77 ] ، وقيل : أرادوا ما حُكيَ عنهم بقوله تعالى : { لقدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [ آل عمران ، الآية 181 ] . { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة ، بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار بأغلالِها في الآخرة ، فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه { وَلُعِنُوا } عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله تعالى { بِمَا قَالُوا } أي بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء ، وقيل : كلاهما خبر . { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } عطف على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي : كلاّ ليس كذلك بل هو في غاية ما يكونُ من الجود ، وإليه أُشير بتثنية اليد ، فإن أقصى ما ينتهي إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم ، وقيل : التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة ، وقيل : على إعطائه إكراماً ، وعلى إعطائه استدراجاً { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } جملة مستأنفة واردةٌ لتأكيدِه كمالَ وجوده وللتنبيه على سرِّ ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة ، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه ، بل لأن إنفاقه تابعٌ لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليها يدورُ أمرُ المعاش والمعاد ، وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتي من قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التوراة والإنجيل } الآية ، و( كيف ) ظرفٌ ليشاء ، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ( ينفق ) أي ينفق كائناً على أي حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً ، وتركُ ذكرِ ما ينفقه لقصد التعميم . { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهُم } وهم علماؤهم ورؤساؤهم { ما أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن المشتمل على الآيات ، وتقديمُ المفعول للاعتناء به ، وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك { مِن رَبّكَ } متعلق بأنزل كما أن ( إليك ) كذلك ، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدئ أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي ، لأن مدار الزيادة هو النزولُ إليه عليه السلام كما في قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاءً } [ النمل ، الآية 60 ] والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام { طغيانا وَكُفْراً } مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغياناً على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة ، إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرُهم بحسب المقدار كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً . { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ } أي بين اليهود ، فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضَهم قَدَرية وبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة { العداوة والبغضاء } فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم ، والجملة مبتدأةٌ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين ، قيل : العداوة أخصُّ من البغضاء ، لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليٍّ { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بألقينا وقيل : بالبغضاء . { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً للحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين ، أي كلما أرادوا محاربة الرسول عليه الصلاة والسلام ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين ، و( للحرب ) إما صلةٌ لأوقدوا أو متعلق بمحذوف وقع صفةً ( لناراً ) ، أي كائنة للحرب { وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً } أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارةِ الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب ، و( فساداً ) إما مفعول له أو في موقع المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم ، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ، وإما للعهد ، ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد .


[176]:البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 315؛ وأساس البلاغة (يدي).