الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

{ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } . الآية . اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال قوم : هي خاصة . ثم اختلفوا في وجه خصوصهاً ، فقال بعضهم : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها يعني : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } . أيّها الشهود من كتمان الشهادة { أَوْ تُخْفُوهُ } . الكتمان { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } . وهو قول الشعبي وعكرمة ورواية مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله فيما قبله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ } .

وقال بعضهم : نزلت هذه الآية فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين . يعني : وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفّار أو تستروه يُحاسبكم الله . وهو قول مقاتل والواقدي . يدلّ عليه قوله في آل عمران : [ { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ }

من ولاية الكفّار { يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [ 29 ] يدلّ عليه ماقبله . وقال آخرون : هذه الآية عامّة . ثم اختلفوا في وجه عمومها ، فقال بعضهم : هي منسوخة .

روت الرواية بألفاظ مختلفة . قال : لمّا نزلت هذه الآية " جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب وقالوا : يارسول الله والله ما نزلت آية أشد علينا من هذه الآية وإنّا لا نسر أن يكون لأحدنا الدنيا وما فيها وإنّا لمأخوذون ما نحدّث به أنفسنا هلكنا والله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم " هكذا نزلت " . قالوا : هكلنا وكُلّفنا من العمل ما لا نطيق .

قال : " فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام سمعنا وعصينا ، بل قولوا : سمعنا وأطعنا " .

واشتد ذلك عليهم فمكثوا بذلك حولا ، فأنزل الله عزّ وجلّ الفرج والراحة بقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . فنسخت الآية ماقبلها . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ الله عزّ وجلّ قد تجاوز لأمّتي ما حدّثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلّموا به " وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عباس برواية سعيد بن جبير وعطاء ، ومن التابعين وأتباعهم محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة .

قال سعيد بن مرجانة : بينما نحن جلوس عند عبد الله بن عمر إذ تلا هذه الآية { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } .

فقال ابن عمر : إن أخذنا الله بها لنهلكن ، ثم بكا حتى سُمع . قال ابن مرجانة : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن فقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد فأنزل الله { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . وكانت الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها ، فصار الأمر إلى القول والفعل به فنسخت تلك الآية .

وقال بعضهم : هذه الآية محكمة غير منسوخة ، لأن النسخ والأخبار غير جائز إلاّ في خبر فيه أمر أو نهي أو شرط .

ثم اختلفوا في وجه تأويلها فقال قوم من أهل المعاني : قد اثبت الله عزّ وجلّ للقلب كسبا فقال : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] . وكلّ عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله ، [ فلا تظنّ ] الله عزّ وجلّ بتارك عبداً يوم القيامة أسرّ أمراً أو أعلنه من حركة في جوارحه أو [ همسة ] في قلبه دون أن يعرّفه إياه ويخبرهُ به ، ثم يغفر ما شاء لمن يشاء ويعذّب مَنْ شاء بما يشاء .

معنى الآية : وإن تظهروا مافي أنفسكم من [ المعاصي ] فتعملوه أي تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها يخبركم به ويحاسبكم عليه ، ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب مَنْ يشاء .

وهذا معنى قول الحسن ، والربيع ، وقيس بن أبي حازم ، ورواية الضحاك عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] .

وقال آخرون : معنى الآية إن الله تعالى يُحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه ، ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوها ، بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها ، وهذا قول عائشة ، روي بأنّها سُئلت عن هذه الآية فقالت : " ما سألت عنها أحد فقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمّى والنكبة حتّى الشوكة والبضاعة يضعها في [ جيبه ] فيفقدها فيفرغ لها فيجدها في جيبه ، حتّى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكيس " .

يدلّ عليه قوله { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] يعني في الدنيا .

وقال مجاهد : في رواية منصور وابن أبي جريج قال : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } . يعني من اليقين والشك .

وقال جعفر بن محمد : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } . يعني الإسلام { أَوْ تُخْفُوهُ } . يعني الإيمان .

وقال بعضهم : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } . يعني مافي قلوبكم ممّا عرفتم وعقدتم عليه { أَوْ تُخْفُوهُ } . فلا تبدوه وأنتم مجمعون وعازمون عليه ، يحاسبكم به الله ، فأمّا ما حدّثتم به أنفسكم ممّا لم تعزموا عليه فإن ذلك ممّا لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ولا يؤاخذ به . ودليل هذا التأويل قوله : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] .

وعن عبد بن المبارك قال : قلت لسفيان : ليؤاخذ العبد بالهمّة ، قال : إذا كان عزما أخذ بها . وعن عمرو بن جرير قال : خرجت وأنا شاب لأمر هممت به ، فمررت بأبي طالب القاص والناس مجتمعون عليه وكان أوّل شيء تكلّم به أن قال : أيّها الهامّ بالمعصية علمت أن خالق الهمّة مطّلع على همّتك ، قال : فخررت والله مغشيّاً عليّ ، فما أفقت إلاّ عن توبة .

وعن إسماعيل بن أبي خالد قال : أصابت بني اسرائيل مجاعة فمرّ رجل على رمل فقال : ( وددت ) أن هذا الرمل دقيق لي فأطعمه بني إسرائيل ، فأُعطي على نيّته .

وعن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال : " كان رجل يطوف على العلماء ، يقول : مَنْ يدلّني على عمل لا أزال منه عاملاً لله عزّ وجلّ فإنّي أحب أن لا تأتي عليّ ساعة من الليل والنهار إلاّ وأنا عامل ، فقيل له : قد وجدت حاجتك فأعمل الخير ما استطعت ، فإذا فترت أو تركته فهمّ بعمله إنّ الهامّ بعمل الخير كعامله . وهذا يعني قول النبيّ صلى الله عليه وسلم " نيّة المؤمن خير من عمله " لأن العمل ينقطع والنيّة لا تنقطع " .

وقال محمد بن علي : معنى الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } . من الأعمال الظاهرة { أَوْ تُخْفُوهُ } من الأحوال الباطنة ، يحاسبكم به الله العابد على أفعاله والعارف على أحواله .

وقال بعضهم : إنّ الله يقول يوم القيامة : [ يوم ] تُبلى السرائر وتخرج الضمائر ، وأن كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلاّ ما ظهر منها ، وأنا مطّلع على سرائركم مالم يعلموه ولم يكتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه لتعلموا أنّه لا يعزب عنّي مثقال ذرة من أعمالكم ثم أغفر لمَنْ شئت وأُعذّب مَنْ شئت .

فأمّا المؤمنون فيخبرهم بذلك ويغفر لهم ولا يؤاخذهم بذلك إظهاراً لفضله ، وأمّا الكافرون فيخبرهم بها ويعاقبهم عليها إظهاراً لعدله .

فمعنى الآية : وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه ممّا أضمرتم وأسررتم وأردتم ، يُحاسبكم به الله ويخبركم ويعرّفكم إياه ، فيغفر للمؤمنين ويعذّب الكافرين . وهذا معنى قول الضحاك والربيع ورواية العوفي والوالبي عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } . ولم يقل : يؤاخذكم ، والمحاسبة غير المعاقبة ، والحساب ثابت والعقاب ساقط ، وممّا يُويّد هذا حديث النجوى وهو ما روى قتادة عن صفوان بن محرز قال : " بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمرو اذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ، فقال : سمعت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يقول : يدنو المؤمن من ربّه حتّى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول : هل أذنبت ببعض كذا ، فيقول : ربّ أعرف ، فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ، فيقول الله : أنا الذي سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم لم يُطلع على ذلك مَلَكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً .

وأمّا الكفّار والمنافقون فينادون على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذّبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين " .

الأعمش عن معرور بن سويد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" يُؤتى الرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، فيعرض عليه ، فيقال : عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا وهو يقرّ ولا ينكر ويخبأ عنه كبار ذنوبه وهو منها مشفق فيقول : اعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة ، فيقول : إنّ لي ذنوباً ما أراها هاهنا " .

قال : قال أبو ذر : فلقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت نواجذه .

وقال الحسين بن مسلم : يحاسب الله عزّ وجلّ المؤمنين يوم القيامة بالمنّة والفضل ، والكافرين بالحجّة والعدل . { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } . رفعهما أبو جعفر وابن عامر وابن محيصن والحسن وعاصم ويعقوب وأختاره أبو حاتم ، ونصبها ابن عباس ، وجزمها الباقون فالجزم على النسق والرفع على الابتداء أي فهو يغفر ، والنصب على الصرف ، وقيل : على إضمار ( أن ) الخفيفة .

وروى طاووس عن ابن عباس : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } . الذنب العظيم { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } . على الذنب الصغير { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } . الآية . روى طلحة بن مصرف عن مرّة عن عبد الله قال : لمّا أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، فأعطى لنا الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك [ بالله ] من أمّته شيئاً إلاّ المقحمات .

وعن علقمة بن قيس عن عقبة بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزل الله عزّ وجلّ آيتين من كنوز العرش كتبهما الرحمن عزّ وجلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من ( يقولها ) بعد العشاء الآخرة مرّتين أجزأتا عنه قيام الليل : { آمَنَ الرَّسُولُ } . إلى آخر السورة " .

وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث الهمداني عن النعمان بن بشير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين فختم بهما سورة البقرة ، فلا يقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال " .

وروى عبد الرحمن عن ابن زيد عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفياه " .

موسى بن حذيفة عن ابن المنكدر قال : حدّثنا حديثاً رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " في آخر سورة البقرة آيات أنهنّ قرآن وأنّهن دعاء وأنّهن يرضين الرحمن " وفي الحديث : " أنّه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن بيت ثابت بن أويس بن شمّاس يزهر الليلة كالمصابيح ، قال : " لعلّه يقرأ سورة البقرة " ، فسئل ثابت فقال : قرأت سورة البقرة " .