جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يعني ذلك جل ثناؤه : الذين يربون ، والإرباء : الزيادة على الشيء ، يقال فيه : أربى فلان على فلان إذا زاد عليه يربي إرباء ، والزيادة هي الربا ، ورباالشيء : إذا زاد على ما كان عليه فعظم ، فهو يربو رَبْوا . وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والإشراف على مااستوى من الأرض مما حولها من قولهم ربا يربو ، ومن ذلك قيل : فلان في ربا قومه يراد أنه في رفعة وشرف منهم ، فأصل الربا الإنافة والزيادة ، ثم يقال : أَرْبَى فلان : أي أناف صيره زائدا . وإنما قيل للمربي مريب لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالاً ، أو لزيادته عليه فيه ، لسبب الأجل الذي يؤخره إليه ، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حلّ دينه عليه ، ولذلك قال جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ، فيؤخر عنه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حلّ الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخّر عنه .

فقال جل ثناؤه للذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا ، لا يقومون في الاَخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ¹ يعني بذلك : يتخبّله الشيطان في الدنيا ، وهو الذي يتخبطه فيصرعه من المسّ ، يعني من الجنون . وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { الّذِينَ يأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطَهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : ذلك حين يبعث من قبره .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقال يوم القيامة لاَكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : { لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : ذلك حين يبعث من قبره .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } . . . الآية . قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ } الآية ، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة ، بعثوا بهم خبل من الشيطان .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا يَقُومُونَ إِلاّ كما يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : هو التخبّل الذي يتخبّله الشيطان من الجنون .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان . وهي في بعض القراءة : «لا يقومون يوم القيامة » .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يعني من الجنون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : هذا مثلهم يوم القيامة لا يقومون يوم القيامة مع الناس ، إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة كأنه خنق كأنه مجنون .

ومعنى قوله : { يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يتخبله من مسه إياه ، يقال منه : قد مُسّ الرجل وأُلِقَ فهو ممسوس ومألوق ، كل ذلك إذا ألمّ به اللمم فجنّ ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا } . ومنه قول الأعشى :

وَتُصْبِحُ عن غِبّ السّرَى وكأنما *** أَلَمّ بِها من طائفِ الجنّ أوْلَقُ

فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله ، أيستحقّ هذا الوعيد من الله ؟ قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل ، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الاَيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله جل ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بِقَيَ مِنَ الرّبا إِنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأذْنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } . . . الآية ما ينبىء عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا ، وأنْ سواء العمل به وأكلُه وأخذه وإعطاؤه ، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «لَعَنَ اللّهُ آكِلَ الرّبا ، وَمُوءْكِلَهُ ، وَكاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ إِذَا عَلِمُوا بِهِ » .

( القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } .

يعني بذلك جل ثناؤه : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون ، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلّ بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا ، وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية ، كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحقّ زدني في الأجل وأزيدك في مالك ، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحلّ ، فإذا قيل لهما ذلك ، قالا : سواء علينا زدنا في أوّل البيع أو عند محلّ المال فكذّبهم الله في قيلهم ، فقال : { وَأحَلّ اللّهُ البَيْعَ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأحَلّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرّمَ الرّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأمْرُهُ إِلى اللّهِ وَمَنْ عادَ فأُولَئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ } .

يعني جل ثناؤه : وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع ، وحرّم الربا يعني الزيادة التي يزاد ربّ المال بسبب زيادته غريمه في الأجل ، وتأخيره دينه عليه . يقول عزّ وجلّ : وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع ، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ، وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين ، وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل¹ وأحللت الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها ، فقال الله عزّ وجلّ ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ، لأني أحللت البيع ، وحرّمت الربا ، والأمر أمري والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ، ولا أن يخالف في أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي . ثم قال جل ثناؤه : { فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى } يعني بالموعظة : التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوّفهم به في آي القرآن ، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب ، يقول جل ثناؤه : فمن جاءه ذلك فانتهى عن أكل الربا ، وارتدع عن العمل به ، وانزجر عنه { فَلَهُ ما سلَفَ } يعني ما أكل ، وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك { وأمرهُ إلى اللّهِ } يعني وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم ، وبعد انتهاء آكله عن أكله إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه ، وإن شاء خذله عن ذلك . { وَمَنْ عادَ } يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله : { إِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } { فأولئكَ أصحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ، يعني نار جهنم فيها خالدون . )

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال¹ حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إِلى اللّهِ } أما الموعظة فالقرآن ، وأما ما سلف فله ما أكل من الربا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )

وقوله عز وجل : { الذين يأكلون الربا } الآية ، { الربا } هوالزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان ، وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه( {[2705]} ) ، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة ، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه( {[2706]} ) ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها : آكل ربا فبتجوز وتشبيه ، والربا من ذوات الواو ، وتثنيته ربوان عند سيبويه ، ويكتب الألف . قال الكوفيون : يكتب( {[2707]} ) ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله . وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم ، نحو ضحى ، فإن كان مفتوحاً نحو صفا فكما قال البصري .

ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : { الذي يأكلون }( {[2708]} ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : { لا يقومون } من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفه ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » .

قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [ الطويل ]

وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما . . . أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق( {[2709]} )

لكن ما جاءت( {[2710]} ) به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل { ويتخبطه } «يتفعله » من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله . و { المس } الجنون ، وكذلك الأولق والألس والزؤْد( {[2711]} ) ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه عند جميع المتأولين في الكفار( {[2712]} ) ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها .

والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل { فله ما سلف } ولا يقال ذلك لمؤمن عاص( {[2713]} ) ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية ، ثم جزم تعالى الخبر في قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا }( {[2714]} ) وقال بعض العلماء في قوله : { وأحل الله البيع } هذا من عموم القرآن ، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه ، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع ، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه ، وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم ، والقول الأول عندي أصح( {[2715]} ) ، قال جعفر بن محمد الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس . وقال بعض العلماء : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله : { فمن جاءه } لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ ، وقرأ الحسن «فمن جاءته » بإثبات العلامة ، وقوله : { فله ما سلف } أي من الربا لا تباعة( {[2716]} ) عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره ، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك ، و { سلف } معناه تقدم في الزمن وانقضى .

وفي قوله تعالى : { وأمره إلى الله } أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى : وأمر الربا إلى الله في إمرار( {[2717]} ) تحريمه أو غير ذلك . الثاني أن يكون الضمير عائداً على { ما سلف } . أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه . والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير . كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء . وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته ، ويجيء الأمر هاهنا( {[2718]} ) ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره ، وقوله تعالى : { ومن عاد } يعني إلى فعل الربا والقول { إنما البيع مثل الربا } وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة . كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما ، لا على التأبيد الحقيقي .


[2705]:- أي يزيد المطلوب في المال ويزيد الطالب في الأجل.
[2706]:- قال الإمام الشاطبي رحمه الله في "الموافقات": «وإذا كان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض فقد ألحقت به السنة كل ما فيه زيادة بذلك المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)، ثم زاد على ذلك بيع النِّساء إذا اختلفت الأصناف، وعدَّه من الربا لأن النَّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة، ويدخل فيه بحكم المعنى: السلف يجر نفعاً، وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها، فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء وهو ممنوع، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة، إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة، ويبقى النظر: لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما ؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها اليوم، فلذلك بينتها السنة، إذ لو كانت بيِّنة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد، فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس»، فتأمل.
[2707]:- يعجبني ما قاله الشوكاني في "فتح القدير" في مثل هذه النقوش الكتابية من أنها أمور اصطلاحية لا يعيب أحد على أحد فيها، وأن رسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأول، فما كان في النطق ألفا كالصلاة والزكاة كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً أو باءً لا يخفى على من له معرفة بعلم الصرف فإن هذه النقوش هي لفهم اللفظ الذي يُدلُّ بها عليه كيف هو في نطق من نطق به، لا لفهم أن أصل الكلمة هو كذا مما لا يجري به النطق.
[2708]:- يعني أن القصد من الآية الكريمة هو جميع وجوه الانتفاع ولكنه وقع التعبير بالأكل لأنه أقوى وجوه الانتفاع، ولأنه أدل على معنى الحرص والجشع.
[2709]:- الغبُّ من كل شيء: عاقبته – والسُّرى: سير عامة الليل (يذكر ويؤنث) – ألَمَّ: نزل – والأولق: شبه الجنون، وهو أفعل لأنهم قالوا: ألِق الرجل فهو مَألُوق – على مفعول. قاله في اللسان: وقال أيضا: ومنه قول الشاعر: لعَمْرُك بي من حُبِّ أسماء أولَق. وفي اللسان أيضا: الأولق كالأفكل: الجنون – وقيل: الخفة من النشاط كالجنون – وأصله من الولق الذي هو السرعة.
[2710]:- حاصله أن الآية الكريمة تحتمل أن يكون القيام المشبه بقيام المجنون في الدنيا، كما شبه الأعشى نشاط ناقته بالجنون، ويحتمل أن يكون هذا القيام في الآخرة، وهذا الثاني هو المروي عن السلف الصالح، وهو الذي جاءت به قراءة عبد الله بن مسعود، فيكون الاحتمال الأول ضعيفا، وإن كانت ألفاظ الآية تقبله. ويؤخذ من الآية الكريمة أن صرع الجن بالإنس حقيقة واقعة لا يرتاب فيه إلا من تخبطه الشيطان، وقد ورد أن الشيطان يجري مجرى الدم من الإنسان.
[2711]:- هذه الألفاظ كلها تؤدي معنى الجنون، وهي: (المسُّ): يقال: مسَّه الشيطان، فهو مَمْسوس، وبه مسٌّ – أنشد ابن الأنباري: أُعَلِّل نفسي بما لا يكـونُ كذي المَسِّ جُنَّ ولم يخنق و(الألس) – يقال: أُلِسَ ألْساً فهو مألوس. أي: جُنَّ – (الأولق) – يقال: أُلِق فلان ألْقاً وأُلاقاً: جُنَّ. و(الأولع)، جاء في اللسان: وقال عرَّام: يقال بفلان من حُبِّ فلانة الأولع والأولق، وهو: شبه الجنون.
[2712]:- أي في ربا الجاهلية الذين قالوا فيه: [إنما البيع مثل الربا] وهو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: [وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون] ودل عليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله).
[2713]:- بل يفسخ عقده، ويرد عمله. وإن كان جاهلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ).
[2714]:- أي أخبر خبراً جازما للرد عليهم، وفي الآية ما يدل على أن القياس مع وجود النص فاسد، إن قلنا: إن في الآية قياس، واعلم أن حكم المستحِلِّ للربا حكم المرتد، وأما إن مارسه دون استحلال فإنه يجوز للإمام محاربته، لأن الله سبحانه قد أذن في ذلك بقوله: [فأذنوا بحرب من الله ورسوله].
[2715]:- وهو أنه من العامِّ المخصص، لا من المجمل المُبَيَّن، والفرق بينهما أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل، والمجمل لا يدل على إباحتها بالتفصيل حتى يقترن به بيان، وإن دل على الإباحة في الجملة.
[2716]:- تباعة الأمر: عاقبته، وما يترتب عليه من أثر، يقال: لي قِبَلَ فلان تِباعة: ظلامة.
[2717]:- أي في استمرار تحريمه على عباده.
[2718]:- أي في التأويل الرابع.