جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

وقوله : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ يقول : أدخل يدك . وفيه لغتان : سلكته ، وأسلكته فِي جَيْبِكَ يقول : في جيب قميصك . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ : أي في جيب قميصك .

وقد بيّنا فيما مضى السبب الذي من أجله أُمر أن يدخل يده في الجيب دون الكمّ .

وقوله : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ يقول : تخرج بيضاء من غير برص . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا ابن المفضل ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن الحسن ، في قوله : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ قال : فخرجت كأنها المصباح ، فأيقن موسى أنه لقي ربه .

وقوله : وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ يقول : واضمم إليك يدك . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ قال : يدك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ قال : وجناحاه : الذراع . والعضد : هو الجناح . والكفّ : اليد ، اضْمُمْ يَدَكَ إلَى جَنَاحِك تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ .

وقوله : مِنَ الرّهْبِ يقول : من الخوف والفرَق الذي قد نالك من معاينتك ما عاينت من هول الحية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله مِنَ الرّهْبِ قال : الفَرَق .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرّهْبِ : أي من الرعب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله مِنَ الرّهْبِ قال : مما دخله من الفَرَق من الحية والخوف ، وقال : ذلك الرهب ، وقرأ قول الله يَدْعُونَنا رَغَبا وَرَهَبا قال : خوفا وطمعا .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والبصرة : «مِنَ الرّهَب » بفتح الراء والهاء . وقرأته عامة قرّاء الكوفة : «مِنَ الرّهْبِ » بضم الراء وتسكين الهاء ، والقول في ذلك أنهما قراءتان متفقتا المعنى مشهورتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبّكَ يقول تعالى ذكره : فهذان اللذان أريتكهما يا موسى من تحوّل العصا حية ، ويدك وهي سمراء ، بيضاء تلمع من غير برص ، برهانان : يقول : آيتان وحجتان وأصل البرهان : البيان ، ويقال للرجل يقول القول إذا سئل الحجة عليه : هات برهانك على ما تقول : أي هات تبيان ذلك ومصداقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَذَانِكَ برهانانِ مِنْ رَبّكَ العصا واليد آيتان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبّكَ تبيانان من ربك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبّكَ هذان برهانان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبكَ فقرأ : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ على ذلك آية نعرفها ، وقال : بُرْهَانَانِ آيتان من الله .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَذَانِكَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار ، سوى ابن كثير وأبي عمرو : فَذَانِكَ بتخفيف النون ، لأنها نون الاثنين ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : «فَذَانّكَ » بتشديد النون .

واختلف أهل العربية في وجه تشديدها ، فقال بعض نحويّي البصرة : ثقل النون من ثقلها للتوكيد ، كما أدخلوا اللام في ذلك . وقال بعض نحويّي الكوفة : شددت فرقا بينها وبين النون التي تسقط للإضافة ، لأن هاتان وهذان لا تضاف . وقال آخر منهم : هو من لغة من قال : هذا قال ذلك ، فزاد على الألف ألفا ، كذا زاد على النون نونا ليفصل بينهما وبين الأسماء المتمكنة ، وقال في ذانك إنما كانت ذلك فيمن قال : هذان يا هذا ، فكرهوا تثنية الإضافة فأعقبوها باللام ، لأن الإضافة تعقب باللام . وكان أبو عمرو يقول : التشديد في النون في ذَانِكَ من لغة قريش إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ يقول : إلى فرعون وأشراف قومه ، حجة عليهم ، ودلالة على حقيقة نبوّتك يا موسى إنّهُمْ كانُوا قَوْما فاسِقِينَ يقول : إن فرعون وملأه كانوا قوما كافرين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

ثم أمره أن يدخل يده في جيبه وهو فتح الجبة من حيث يخرج رأس الإنسان ، وروي أن كم الجبة كان في غاية الضيق فلم يكن له جيب تدخل يده إلا في جيبه ، و «سلك » معناه أدخل ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

حتى سلكن الشوا منهن في مسك . . . من نسل جوابة الآفاق مهداج{[9146]}

وقوله تعالى : { من غير سوء } أي من غير برص ولا مثلة .

وروي أن يده كانت تضيء كأنها قطعة شمس ، وقوله تعالى : { واضمم إليك جناحك من الرهب } ذهب مجاهد وابن زيد إلى أن ذلك حقيقة ، أمره بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ، ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في أوقات فزعه أن يقوى قلبه ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك على المجاز والاستعارة وأنه أمره بالعزم على ما أمر به وأنه كما تقول العرب اشدد حيازيمك واربط جأشك ، أي شمر في أمرك ودع الرهب ، وذلك لما كثر تخوفه في غير ما موطن قاله أبو علي ، وقوله تعالى { فذانك برهانان } قال مجاهد والسدي : هي إشارة إلى العصا واليد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والناس «الرَّهَب » بفتح الراء والهاء ، وقرأ عاصم وقتادة «الرهْب » بسكون الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم أيضاً «الرُّهْب » بضم الراء وسكون الهاء ، وقرأ الجحدري «الرُّهُب » بضم الراء والهاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فذانّك » بشد النون ، وقرأ الباقون «فذانك » بتخفيف النون ، وقرأ شبل عن ابن كثير «فذانيك » بياء بعد النون المخففة ، أبدل إحدى النونين ياء كراهة التضعيف ، وقرأ ابن مسعود «فذانيك » بالياء أيضاً مع شد النون وهي لغة هذيل ، وحكى المهدوي أن لغتهم تخفيف النون ، و { برهانان } ، حجتان ومعجزتان ، وباقي الآية بين .


[9146]:البيت لأبي وجزة السعدي، وهو في (اللسان-مسك-و­هدج­)، مع بيت قبله، قالهما أبو وجزة في وصف حمر الوحش: مازلن ينسبن وهنا كل صادقة باتت تباشر ُعْرما غير أزواج حتى سلكن الشوى منهن في مسك من نسل جوابة الآفاق مهداج يصف الحمر حين أتت ليلا فأثارت القطا، فصاحت: قطا قطا، جعلها صادقة لأنها خبرت باسمها، كما يقال: أصدق من القطا، وقوله: تباشر عرما، عنى به بيضها، والأعرم: الذي فيه نقط بياض ونقط سواد، وكذلك بيض القطا، وقوله: غير أزواج: يريد أن بيض القطا يكون أفرادا ولا يكون أزواجا، والشوى: قوائم الحمر الوحشية، والمسك هنا: الماء الذي سارت فيه الأتن ووضعت قوائمها فيه فصار حولها كالمسك وهو السوار، قال صاحب اللسان: استعاره أبو وجزة فجعل ما تخل فيه الأتن قوائمها من الماء مسكا، وقوله: جوابة الآفاق: يريد الريح، ويقول: إن الماء من نسلها، لأن الريح تستدر السحاب وتلقحه فيمطر، فالماء من نسلها، والمهداج: التي لها صوت وحنين، فهي ريح سريعة الحركة في الآفاق، وهي ريح لها صوت وحنين، والشاهد هنا أن (سلكن) في البيت بمعنى: ادخلن، يعني أن الأتن أدخلن قوائمهن في الماء الذي صار حولها كالسوار.