القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الْقُرَىَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : هذه القرى التي ذكرت لك يا محمد أمرها وأمر أهلها ، يعني : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أنْبَائِها فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها ، وما كان من أمرهم ، وأمر رسل الله التي أرسلت إليهم ، لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا ، ويعلم مكذّبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذّب رسل الله ، فيرتدعوا عن تكذيبك ، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته . وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهم بالبيّناتِ يقول : ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها رسلهم بالبينات يعني بالحجج : البينات . فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذّبوا من قبل ذلك ، وذلك يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كُرْها .
وقال آخرون : معنى ذلك : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذّبون به يوم أخرجهم من صلب آدم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ قال : كان في علمه يوم أقرّوا له بالميثاق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : يحقّ على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء ويدَعوا علم ما أخفى الله عليهم ، فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون ، وفي ذلك قال : وَلَقَدْ جاءتْهُمْ رُسُلُهمْ بالبَيّناتِ فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبوُا مِنْ قَبْلُ كذلكَ يَطْبَعُ اللّهُ على قُلُوبِ الكافِرِينَ قال : نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم ، وتصديق ذلك حيث قال لنوح اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعلى أُمَمٍ مِمّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمّ يَمَسّهُمْ مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ ، وقال في ذلك : وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وفي ذلك قال وَما كُنّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وفي ذلك قال : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُل ، ولا حجة لأحد على الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل هلاكهم ، كما قال جلّ ثناؤه : وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : بِمَا كَذّبوا مِنْ قَبْلُ قال : كقوله : وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ .
قال أبو جعفر : وأشبه هذه الأقوال بتأويل الاَية وأولاها بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع ، وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به ، فلن يؤمن أبدا ، وقد كان سبق في علم الله تعالى لمن هلك من الأمم التي قصّ نبأهم في هذه السورة أنه لا يؤمن أبدا ، فأخبر جلّ ثناؤه عنهم ، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذّبون في سابق علمه قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم . ولو قيل تأويله : فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض يا محمد من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود ، ليؤمنوا بما كذّب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده ، كان وجها ومذهبا ، غير أن لا أعلم قائلاً قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن . وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه : لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا ، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا من خبر عن الرسول صحيح . وإذا كان ذلك كذلك ، فأولى منه بالصواب ما كان عليه من ظاهر التنزيل دليل .
وأما قوله : كذلكَ يَطْبَعُ اللّهُ على قُلُوبِ الكافِرِينَ فإنه يقول تعالى ذكره : كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم يا محمد في هذه السورة حتى جاءهم بأس الله فهلكوا به ، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كُتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا من قومك .
{ تلك القرى } يعني قرى الأمم المار ذكرهم . { نقص عليك من أنبائها } حال إن جعل { القرى } خبرا وتكون إفادته بالتقييد بها ، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين و{ من } للتبعيض أي نقص بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لا نقصها . { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } بالمعجزات . { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيئهم بها . { بما كذّبوا من قبل } بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل ، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم . { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر .
لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم ، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها ، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى ، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق .
وجملة : { تلك القرى } مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] ثم قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } [ الأعراف : 94 ] الآية .
و { القرى } يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع ، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها ، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } [ التوبة : 35 ] أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم ، وهم قد علموا أنه كنزهم ، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم ، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة .
وجملة : { نقص عليك من أنبائها } إما حال من { القرى } على الوجه الأول .
وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها ، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه ، والوعدُ بالزيادة من ذلك ، لما دل عليه قوله : { نقص } من التجدد والاستمرار ، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها .
وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله : { القرى } .
و ( منْ ) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ .
والأنباء : الأخبار ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .
والمراد بالقرى وضمير أنبائها : أهلها ، كما دل عليه الضمير في قوله : رسلهم .
وجملة : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } عطف على جملة : { تلك القرى } لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وجمع « البينات » يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول ، والبينات : الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى : { قد جاءتكم بينة من ربكم } في قصة ثمود في هذه السورة ( 73 ) .
( والفاء ) في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا } لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان .
وصيغة { ما كانوا ليؤمنوا } تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر . وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في سورة آل عمران ( 79 ) . والمعنى : فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه .
{ وما كذبوا } موصول وصلته وحُذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف ، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية .
وما صْدَقُ ( ما ) الموصولة : ما يدل عليه { كذبوا } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دُعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث . وشأن ( ما ) الموصولة أن يراد بها غير العاقل ، فلا يكون ما صْدقُ ( ما ) هنا الرسل ، بل ما جاءت به الرسل ، فلذلك كان فعل { كذبوا } هنا مقدراً متعلّقهُ لفظُ ( به ) كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به ، قال تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وكذّب به قومُك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وحُذف المتعلق هنا إيجازاً ، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى ، ابتداء من قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } [ الأعراف : 94 ] وقد سبق في ذلك قوله : { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [ الأعراف : 96 ] ولهذا لم يحذف متعلق فعل { كذبوا } في نظير هذه الآية من سورة يونس .
والمعنى : ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة ، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء { قبلُ } على الضم تقديره : من قبلِ مجيء البينات .
وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب ، وهو استعمال كثير ، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } .
ومعنى قولهن : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } مثلَ ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر ، والمؤذن به فعل { يطبع } ، وقد تقدم نظائره غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ) .
وإظهار المسند إليه في جملة { يطبع الله } دون الإضمار : لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذاً إلى قلوبهم كقوله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان : 11 ] دون أن يقول : هذا خلقي ، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده .
والقلوب : العقول ، والقلب ، في لسان العرب : من أسماء العقل ، وتقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .
والتعريف في { الكافرين } تعريف الجنس ، مفيد للاستغراق ، أي : جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم .
وفي قوله : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } إلى آخر الآية ، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين ، وأن ذلك ليس لتقصير منه ، ولا لضعف آياته ، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه .