القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي مَدّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي مدّ الأرض ، فبسطها طولاً وعرضا . وقوله : وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ يقول جلّ ثناؤه : وجعل في الأرض جبالاً ثابتة والرواسي : جمع راسية ، وهي الثابتة ، يقال منه : أرسيت الوتد في الأرض : إذا أثبته ، كما قال الشاعر :
بِهِ خالِدَاتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ *** وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدَةُ بالفِهْرِ
وقوله : وأنهارا يقول : وجعل في الأرض أنهارا من ماء . وقوله : وَمِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجيْنِ اثْنَينِ ف «مِنْ » في قوله وَمِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ من صلة «جعل » الثاني لا الأول . ومعنى الكلام : وجعل فيها زوجين اثنين من كلّ الثمرات . وعنى بزوجين اثنين : من كل ذَكَرٍ اثنان ، ومن كل أنثى اثنان ، فذلك أربعة من الذكور اثنان ومن الإناث اثنان في قول بعضهم . وقد بيّنا فيما مضى أن العرب تسمي الاثنين زوجين ، والواحد من الذكور زوجا لأنثاه ، وكذلك الأنثى الواحدة زوجا وزوجة لذكرها ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ويزيد ذلك إيضاحا قول الله عزّ وجلّ : وأنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْن الذّكَرَ والأُنْثَى فسمى الاثنين الذكر والأنثى زوجين . وإنما عنى بقوله : مِنْ كُلّ زَوْجَيْن اثْنَيْن : نوعين وضربين . )
وقوله : يُغْشى اللّيْلَ النّهارَ يقول : يجلل الليل النهار فيلبسه ظلمته ، والنهار الليل بضيائه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ : أي يلبس الليلَ النهار .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ يقول تعالى ذكره : إن فيما وصفت وذكرت من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء ، لدلالات وحججا وعظات ، لقوم يتفكرون فيها فيستدلون ويعتبرون بها ، فيعلمون أن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلاّ لمن خلقها ودبّرها دون غيره من الاَلهة والأصنام التي لا تقدر على ضرّ ولا نفع ولا لشيء غيرها ، إلاّ لمن أنشأ ذلك فأحدثه من غير شيء تبارك وتعالى ، وأن القدرة التي أبدع بها ذلك هي القدرة التي لا يتعذّر عليه إحياء من هلك من خلقه وإعادة ما فني منه وابتداع ما شاء ابتداعه بها .
{ وهو الذي مدّ الأرض } بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام وينقلب عليها الحيوان . { وجعل فيها رواسي } جبالا ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت ، جمع راسية والتاء للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة . { وأنهارا } ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال أسباب لتولدها . { ومن كل الثمرات } متعلق بقوله : { جعل فيها زوجين اثنين } أي وجعل فيها من جمع أنواع الثمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض ، والأسود والأبيض والصغير والكبير . { يُغشي الليل النهار } يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعدما كان مضيئا ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر " يُغَّشِي " بالتشديد . { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } فيها فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيأ أسبابها .
لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ، ذكرت آيات الأرض .
وقوله : { مد الأرض } يقتضي أنها بسيطة لا كرة - وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم . و «الرواسي » الجبال الثابتة ، يقال : رسا يرسو ، إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
به خالدات ما يرمن وهامد***وأشعث أرسته الوليدة بالفهر{[6887]}
و «الزوج » - في هذه الآية - الصنف والنوع ، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره ، ومنه قوله تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون }{[6888]} [ يس : 36 ] ومثل هذه الآية : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج }{[6889]} [ ق : 7 ] .
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «يغْشي » بسكون الغين وتخفيف الشين ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم - في رواية أبي بكر - بفتح الغين وتشديد الشين ، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر ، وباقي الآية بين .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان ، اثنان ، ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي ، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى تم في قوله : { الثمرات } ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين .
{ وهو الذي مد الأرض جعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } .
عطف على جملة { الله الذي رفع السماوات } فبين الجملتين شبه التضاد . اشتملت الأولى على ذكر العوالم العلوية وأحوالها ، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية . والمعنى : أنه خالق جميع العوالم وأعراضها .
والمد : البسط والسعة ، ومنه : ظل مديد ، ومنه مد البحر وجزره ، ومد يده إذا بسطها . والمعنى : خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالاً شاهقة متلاصقة لما تيسّر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره . وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدّها بل هو كقوله : { الله الذي رفع السماوات } ، فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة .
والرواسي : جمع رَاسسٍ ، وهو الثابت المستقر . أي جبالاً رواسي . وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله : { وله الجواري } ، أي السفن الجارية . وسيأتي في قوله : { وألقى في الأرض رواسي } في سورة النحل ( 15 ) بأبسط مما هنا .
وجيء في جمع راسٍ بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل ، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل : صاهل وبازل .
والاستدلال بخلق الجبال على عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية ، كما قال تعالى : { وإلى الجبال كيف نصبت } [ الغاشية : 19 ] .
والأنهار : جمع نهر ، وهو الوادي العظيم . وتقدم في سورة البقرة : { إن الله مبتليكم بنهر } ( 249 ) .
وقوله : { ومن كل الثمرات } عطف على { أنهاراً } فهو معمول ل { جَعل فيها رواسِيَ } . ودخول { مِن } على { كلّ } جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله : { وبث فيها من كل دابة } . و { مِن } هذه تُحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد .
والمراد ب { الثمرات } هيَ وأشجارُها . وإنما ذكرت { الثمرات } لأنها موقع منة مع العبرة كقوله : { فأخرجنا به من كل الثمرات } [ سورة الأعراف : 57 ] . فينبغي الوقف على ومن كل الثمرات } ، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض . وهذا أحسن تفسيراً . ويعضده نظيره في قوله تعالى : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } في سورة النحل ( 11 ) .
وقيل إن قوله : { ومن كل الثمرات } ابتداء كلام .
وتتعلق { من كل الثمرات } ب { جعل فيها زوجين اثنين } ، وبهذا فسر أكثر المفسرين . ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير ، لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا ، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين .
وأيضاً فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم . ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى { ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً } [ النبأ : 6 8 ] . والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ سورة القيامة : 39 ] .
والظاهر أن جملة { جعل فيها زوجين } مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكراً وأنثى أحدهما زوج مع الآخر . وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) ، وقوله : { وخلق منها زوجها } في أول سورة النساء ( 1 ) ، وقوله : { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } . وأما قوله تعالى : { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } [ ق : 7 ] فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناءً على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازاً على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق ، والقرينة قوله : أنبتنا } مع عدم التثنية ، كذلك قوله تعالى : { فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى } في سورة طه ( 53 ) .
وتنكير { زوجين } للتنويع ، أي جعل زوجين من كل نوع . ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى : { ثمانية أزواج من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين } الآية في سورة الأنعام ( 143 ) .
والوصف بقوله : { اثنين } للتأكيد تحقيقاً للامتنان .
{ يُغْشِى اليل النهار إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
جملة { يغشي } حال من ضمير { جعل } . وجيء فيه بالمضارع لما يدل عليه من التجدد لأن جعل الأشياء المتقدم ذكرها جعل ثابت مستمر ، وأما إغشاء الليل والنهار فهو أمرٌ متجدّد كل يوم وليلة . وهذا استدلال بأعراض أحوال الأرض . وذكرُه مع آيات العالم السفلي في غاية الدقة العلمية لأن الليل والنهار من أعراض الكرة الأرضية بحسب اتجاهها إلى الشمس وليسَا من أحوال السماوات إذ الشمس والكواكب لا يتغير حالها بضياء وظلمة .
وتقدم الكلام على نظير قوله : { يغشي الليل والنهار } في أوائل سورة الأعراف ( 54 ) .
وقرأه الجمهور بسكون الغين وتخفيف الشين مضارع أغشى . وقرأه حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوبُ ، وخلف بتشديد الشين مضارع غَشّى .
وقوله : { إن في ذلك لآيات } الإشارة إلى ما تقدم من قوله : { الله الذي رفع السماوات } [ الرعد : 2 ] إلى هنا بتأويل المذكور .
وجَعل الأشياء المذكورات ظروفاً { لآيات } لأن كل واحدة من الأمور المذكورة تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام . ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قَوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم ، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ { قوم } على ذلك عند قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) .
وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيراً قاصراً مخلوطاً بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذْ اشتبهت عليهم العلل والمواليد ، بأصل الخلق والإيجاد .
وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومُكرر .
والتفكير تقدم عند قوله تعالى : { أفلا تتفكرون } في سورة الأنعام ( 50 ) .