{ وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } : أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السرّاء والضرّاء ، والذين إذا فعلوا فاحشة وجميع هذه النعوت من صفة المتقين الذين قال تعالى ذكره : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْمُتَقِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : سمعت الحسن قرأ هذه الاَية : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، ثم قرأ : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } . . . إلى { أجْرُ العامِلِينَ } فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } قال : هذان ذنبان : الفاحشة ذنب ، وظلموا أنفسهم ذنب .
وأما الفاحشة فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة . ومعنى الفاحشة : الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عزّ وجلّ فيه . وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ والمقدار في كل شيء ، ومنه قيل للطويل المفرط الطول : إنه لفاحش الطول ، يراد به : قبيح الطول ، خارج عن المقدار المستحسن¹ ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد : كلام فاحش ، وقيل للمتكلم به : أفحش في كلامه : إذا نطق بفحش . وقيل : إن الفاحشة في هذا الموضع معنّي بها الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا حبان ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن جابر : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } قال : زنى القوم وربّ الكعبة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } أما الفاحشة : فالزنا .
وقوله : { أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها . والذي فعلوا من ذلك ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم .
وقوله : { ذَكَرُوا اللّهَ } يعني بذلك ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه . { فاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ } يقول : فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها . { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ } يقول : وهل يغفر الذنوب : أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه إلا الله ؟ { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } يقول : ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها ، ومعصيتهم التي ركبوها { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يقول : لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها ، وهم يعلمون أن الله قد تقدّم بالنهي عنها ، وأوعد عليها العقوبة ، من ركبها . وذكر أن هذه الاَية أنزلت خصوصا بتخفيفها ويسرها أُمّتَنا مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح : أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه : اجدع أذنك ، أجدع أنفك ، افعل ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَسارِعُوا إلى مَغْفِزَةٍ مِنَ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْض أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } . . . إلى قوله : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ ذَلِكَ ؟ » فقرأ هؤلاء الاَيات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عمر أبي خليفة العبديّ ، قال : حدثنا عليّ بن زيد بن جدعان ، قال : قال ابن مسعود : كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا ، أصبح مكتوبا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرا من ذلك هذه الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَعْمَلْ سَواءً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بكى إبليس فزعا من هذه الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاَية : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } بكى .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي ، قال : سمعت عليّ بن ربيعة ، يحدث عن رجل من فزارة يقال له أسماء أو ابن أسماء ، عن عليّ ، قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، نفعني الله بما شاء أن ينفعني ، فحدثني أو بكر وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ عَبْدٍ » قال شعبة : وأحسبه قال «مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثم يَتَوضّأُ ثم يُصّلّي ركْعَتَيْنِ ، ثم يَسْتَغْفِرُ الله لِذَلِكَ الذّنْبِ . . . » وقال شعبة : وقرأ إحدى هاتين الاَيتين : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن عليّ بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري ، عن عليّ بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره ، استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته¹ وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ رَجُلٍ يَذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَتَوَضّأُ ، ثُمّ يُصَلّي » ، قال أحدهما : «رَكْعَتَيْنِ » وقال الاَخر : «ثُمّ يُصَلّي وَيَسْتَغْفِرُ اللّهُ إلاّ غَفَرَ لَهُ » .
حدثنا الزبير بن بكار ، قال : ثني سعد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر ، فإنه كان لا يكذب . قال عليّ رضي الله عنه : فحدثني أبو بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَيَتَوَضّأُ ثُمّ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيَسْتَغْفِرُ اللّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ إلاّ غَفَرهُ اللّهُ لَهُ » .
وأما قوله { ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفرُوا لِذُنُوبِهِمْ } فإنه كما بينا تأويله¹ وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، حدثنا ابن إسحاق : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } : أي إن أتوا فاحشة { أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } بمعصية ذكروا نهي الله عنها ، وما حرّم الله عنها ، فاستغفروا لها ، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو .
وأما قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ } فإن اسم الله مرفوع ، ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعده إلا باتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ، كقول القائل : ما في الدار أحد إلا أخوك¹ فأما إذا قيل : قام القوم إلا أباك ، فإن وجه الكلام في الأب النصب . و «مَنْ » بصلته في قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنْوبَ إلاّ اللّهُ } معرفة فإن ذلك إنما جاء رفعا ، لأن معنى الكلام : وهل يغفر الذنوب أحد ، أو ما يغفر الذنوب أحد إلا الله ، فرفع ما بعد إلا من الله على تأويل الكلام ، لا على لفظه .
وأما قوله : { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل الإصرار ومعنى الكلمة¹ فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ، ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا ، كما وصفهم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَمْ يُصِرّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرّون الماضون قُدُما ، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَمْ يِصِرّوا على مَا فعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : قُدُما قُدُما في معاصي الله ، لا ينهاهم مخافة الله حتى جاءهم أمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لا يَصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَمُونَ } : أي لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي فيما عملوا به من كفر بي .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا هموا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { ولَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } قال : إتيان العبد ذنبا إصرارا حتى يتوب .
حدثني محمد عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } قالوا : لم يواقعوا .
وقال آخرون : معنى الإصرار : السكوت على الذنب ، وترك الاستغفار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ولم يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : أما يصرّوا : فيسكتوا ولا يستغفروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا قول من قال : الإصرار الإقامة على الذنب عامدا ، أو ترك التوبة منه . ولا معنى لقول من قال : الإصرار على الذنب : هو مواقعته¹ لأن الله عزّ وجلّ مدح بترك الإصرار على الذنب مواقع الذنب ، فقال : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ ولَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }¹ ولو كان المواقع الذنب مصرا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم ، لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه وجه . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً » .
حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي ، قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن عثمان بن واقد ، عن أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلو كان مواقع الذنب مصرّا ، لم يكن لقوله «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً » معنى ، لأن مواقعة الذنب ، إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم زان ، وعن القاتل اسم قاتل توبته منه ، ولا معنى غيرها ، وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرّ عليه ، فمعلوم بذلك أن الإصرار غير الموقعة ، وأنه المقام عليه على ما قلنا قبل .
واختلف أهل التأويل في تأويل قولهم : { وَهْمْ يَعْلَمُونَ } فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذين أتوا معصية الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } : فعلة بالغة في القبح كالزنى . { أو ظلموا أنفسهم } : بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك . { ذكروا الله } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم . { فاستغفروا لذنوبهم } : بالندم والتوبة . { ومن يغفر الذنوب إلا الله } : استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين ، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ، { ولم يصروا على ما فعلوا } : ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . { وهم يعلمون } : حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به .
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً دون الصنف الأول ، فألحقهم بهم برحمته ومنه ، فهؤلاء هم التوابون ، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل ، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية{[3544]} ، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له »{[3545]} ، وقوله { والذين } عطف جملة ناس على جملة أخرى ، وليس { الذين } بنعت كرر معه واو العطف ، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش ، و «الفاحشة » هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه ، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وهو لفظ يعم جميع المعاصي ، وقد كثر اختصاصه بالزنا ، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا ، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة ، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم ، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر ، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر ، و { ذكروا الله } معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه ، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه ، و { استغفروا } معناه : طلبوا الغفران ، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم » ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } ، اعتراضاً مرققا للنفس ، داعياً إلى الله ، مرجياً في عفوه ، إذا رجع إليه ، وجاء اسم { الله } مرفوعاً بعد الاستثناء والكلام موجب ، حملاً على المعنى ، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله ، وقوله تعالى : { ولم يصروا } الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر ، وترك الإقلاع عنه ، ومنه صر الدنانير ، أي الربط عليها ، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي : «علم الله أنها مني صرى » .
يريد : عزيمة . فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب ، ومنه قول النبي عليه السلام :< لا توبة مع إصرار>{[3546]} ، وقال أيضاً :< ما أصر من استغفر>{[3547]} ، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار ، فقال قتادة : هو الذي مضى قدماً في الذنب لا تنهاه مخافة الله . وقال الحسن ، إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب ، وقال مجاهد : { لم يصروا } معناه : لم يمضوا وقال السدي : «الإصرار » هو ترك الاستغفار ، والسكوت عنه مع الذنب{[3548]} ، وقوله تعالى : { وهم يعلمون } قال السدي : معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا ، وقال ابن إسحاق : معناه ، وهم يعلمون بما حرمت عليهم ، وقال آخرون : معناه ، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل : المعنى ، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار .
إن كان عطفَ فريقٍ آخر ، فهم غيرُ المتّقين الكاملين ، بل هم فريق من المتّقين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، وإن كان عطفَ صفات ، فهو تفضيل آخر لحال المتَّقين بأن ذُكر أوّلاً حال كمالهم ، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم .
والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد ، ولذلك جمعت في قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [ النجم : 32 ] واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً ، كما في قول عائشة : « لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً » ، أو فعلَ فعلاً ذميماً ، ومنه { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] .
ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس ، أي فعلوا الفواحش ، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر ، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [ النجم : 32 ] . فقيل : الفاحشة المعصية الكبيرة ، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً ، وقيل : الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير ، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس ، وقيل : الفاحشة الزنا ، وهذا تفسير على معنى المثال .
والذكر في قوله : { ذكروا الله } ذكر القلب وهو ذِكر ما يجب لله على عبده ، وما أوصاه به ، وهو الَّذي يتفرّع عنه طلب المغفرة ؛ وأمّا ذكر اللّسان فلا يترتّب عليه ذلك . ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده .
والاستغفار : طلب الغَفْر أي الستر للذنوب ، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب ، ولذلك صار يعدّي إلى الذنب باللام الدالة على التَّعليل كما هنا ، وقوله تعالى : { واستغفر لذنبك } [ غافر : 55 ] . ولمَّا كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة ، ونية إقلاع عن الذنب ، وعدم العودة إليه ، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة ، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمرّ عليه ، أو عازم على معاودته ، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب ، فلذلك عدّ الاستغفار هنا رتبة من مراتب التَّقوى . وليس الاستغفار مجرّد قول ( أستغفر الله ) باللّسان والقائلُ ملتبس بالذنوب . وعن رابعة العدوية أنَّها قالت : « استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار » وفي كلامها مبالغة فإنّ الاستغفار بالقول مأمور به في الدّين لأنَّه وسيلة لتذكّر الذنب والحيلة للإقلاع عنه .
وجملة { ومن يغفر الذنوب إلاّ الله } معترضة بين جملة { فاستغفروا } وجملة { ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا } .
والاستفهام مستعمل في معنى النَّفي ، بقرينة الاستثناء منه ، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب ، والتعريض بالمشركين الَّذين اتّخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، وبالنَّصارى في زعمهم أنّ عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صَلبه .
وقوله : { ولم يصروا } إتمام لركْني التَّوبة لأنّ قوله : { فاستغفروا لذنوبهم } يشير إلى الندم ، وقوله : { ولم يصروا } تصريح بنفي الإصرار ، وهذان ركنا التَّوبة .
وفي الحديث : " النَّدم توبة " ، وأما تدارك ما فرّط فيه بسبب الذنب فإنَّما يكون مع الإمكان ، وفيه تفصيل إذا تعذّر أو تعسّر ، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك .
وقوله : { ولم يصروا على ما فعلوا } حال من الضّمير المرفوع في « ذكروا » أي : ذكروا الله في حال عدم الإصرار . والإصرار : المُقام على الذنب ، ونفيُه هو معنى الإقلاع . وقوله : { وهم يعلمون } حال ثانية ، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم ، وعظم غضب الربّ ، ووجوبَ التوبة إليه ، وأنَّه تفضّل بقبول التَّوبة فمحا بها الذنوب الواقعة .
وقد انتظم من قوله : { ذكروا الله فاستغفروا } وقوله : { ولم يصروا } وقوله : { وهم يعلمون } الأركان الثلاثة الَّتي ينتظم منها معنى التَّوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التَّوبة من « إحياء علوم الدّين » إذ قال : « وهي عِلْم ، وحال ، وفعل . فالعلم هو معرفة ضرّ الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد وبين ربِّه ، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات ما يحبّه من القرب من ربِّه ، ورضاه عنه ، وذلك الألم يسمّى ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعثت منه في القلب حالة تسمّى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلّق بالحال والماضي والمستقبل ، فتعلّقه بالحال هو ترك الذنب ( الإقلاع ) ، وتعلّقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل ( نفي الإصرار ) ، وتعلّقه بالماضي بتلافي ما فات » .
فقوله تعالى : { ذكروا الله } إشارة إلى انفعال القلب .
وقوله : { ولم يصروا } إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة .
وقوله : { وهم يعلمون } إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني . وقد رتّبت هاته الأركان في الآية بحسب شدّة تعلّقها بالمقصود : لأنّ ذكر الله يحصل بعد الذنب ، فيبعث على التَّوبة ، ولذلك رتّب الاستغفار عليه بالفاء ، وأمَّا العلم بأنَّه ذنب ، فهو حاصل من قبل حصول المعصية ، ولولا حصوله لما كانت الفعلة معصية . فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار ، على أنّ جملة الحال لا تدلّ على ترتيب حصول مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلَها في الأخبار والصّفات .
ثُمّ إن كان الإصرار ، وهو الاستمرار على الذنب ، كما فُسِّر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خَشية الله تعالى ، فلم يدلّ على أنَّه عازم على عدم العود إليه ، ولكنَّه بحسب الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندِمَ على فعله ، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التَّوبة الخالصة ، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه إذ التلبّس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه ، فإنَّه متلبّس به من الآن .