{ قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
يعني جلّ ثناؤه : قل يا محمد للناس الذين زين لهم حبّ الشهوات ، من النساء والبنين ، وسائر ما ذكر جلّ ثناؤه : { أؤنبّئكم } أأخبركم وأعلمكم { بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ } يعني بخير وأفضل لكم . { مِنْ ذَلِكُمْ } يعني مما زين لكم في الدنيا حبّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا .
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام ، فقال بعضهم : تناهى ذلك عند قوله : { مِنْ ذَلِكُمْ } ثم ابتدأ الخبر عما { لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ } فقيل : للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، فلذلك رفع «الجنات » . ومن قال هذا القول ، لم يُجِز في قوله : { جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } إلا الرفع ، وذلك أنه خبر مبتدإ غير مردود على قوله بخير ، فيكون الخفض فيه جائزا . وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم ، ففيه إبانة عن معنى الخير الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أؤنبئكم به ؟ والجنات على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا عنْدَ رَبّهِمْ } .
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إن جعلت اللام التي في قوله «للذين » من صلة الإنباء جاز في الجنات الخفض والرفع : الخفض على الردّ على «الخير » ، والرفع على أن يكون قوله : { لِلّذِينَ اتّقُوا } خبر مبتدإ على ما قد بيناه قبل .
وقال آخرون : بل منتهى الاستفهام قوله : { عِنْدَ رَبّهِمْ } ثم ابتدأ : { جَنّاتٌ تَجرِي مِنْ تَحتِها الأنهَارُ } وقالوا : تأويل الكلام : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم ، ثم كأنه قيل : ماذا لهم ، أو ما ذاك ؟ أو على أنه يقال : ماذا لهم أو ما ذاك ؟ فقال : هو جنات تجري من تحتها الأنهار . . . الاَية .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله : { بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ } والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِنْ جَنّاتٌ } فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر ، وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال : أؤنبئكم به ؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير .
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : وأما قوله : { خالِدِينَ فِيها } فمنصوب على القطع¹ ومعنى قوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا } للذين خافوا الله فأطاعوه ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه . { عِندَ رَبّهِمْ } يعني بذلك : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم ، والجنات : البساتين ، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى ، وأن قوله : { تَجرِي مِنْ تَحتِها الأنهَارُ } يعني به : من تحت الأشجار ، وأن الخلود فيها دوام البقاء فيها ، وأن الأزواج المطهرة : هن نساء الجنة اللواتي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنيا من الحيض والمني والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الأذى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ } يعني : ورضا الله ، وهو مصدر من قول القائل : رضي الله عن فلان ، فهو يرضى عنه رضا منقوص ، ورُضْوانا وَرِضْوانا ومرضاة . فأما الرّضوان بضم الراء فهو لغة قيس ، وبه كان عاصم يقرأ . وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير : رضوانه ، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثني أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله تبارك وتعالى : أعطيكم أفضل من هذا ! فيقولون : أي ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني .
وقوله : { وَاللّهُ بَصِيرٌ بالعِبادِ } يعني بذلك ، والله ذو بصر بالذي يتقيه من عباده ، فيخافه فيطيعه ، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعده للذين اتقوه على حب ما زين له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدد منها تعالى ذكره ، وبالذي لا يتقيه فيخافه ، ولكنه يعصيه ، ويطيع الشيطان ، ويؤثر ما زين له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال ، على ما عنده من النعيم المقيم ، عالم تعالى ذكره بكل فريق منهم ، حتى يجازي كلهم عند معادهم إليه جزاءهم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
{ قل أونبئكم بخير من ذلكم } يريد به تقرير أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا . { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } استئناف لبيان ما هو خير ، ويجوز أن يتعلق اللام بخير ويرتفع جنات على ما هو جنات ، ويؤيده قراءة من جرها بدلا من { خير } . { وأزواج مطهرة } مما يستقذر من النساء . { ورضوان من الله } قرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن بضم الراء ما خلا الحرف الثاني في المائدة وهو قوله تعالى : { رضوانه سبل السلام } بكسر الراء وهما لغتان . { والله بصير بالعباد } أي بأعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم جنات ، وقد نبه بهذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.