القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ولاَ تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هي أحْسَن ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتيمِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ قال : التجارة فيه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ فليثمّر ماله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق العنزي ، عن سليط بن بلال ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ قال : يبتغي له فيه ، ولا يأخذ من ربحه شيئا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالتي هيَ أحْسَنُ قال : التي هي أحسن : أن يأكل بالمعروف إن افتقر ، وإن استغنى فلا يأكل قال الله : وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَليْأْكُلْ بالمَعْرُوف . قال : وسئل عن الكسوة فقال : لم يذكر الله الكسوة إنما ذكر الأكل .
وأما قوله : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ فإن الأشدّ جمع شدّ ، كما الأضرّ جمع ضرّ ، وكما الأشرّ جمع شرّ . والشدّ : القوّة ، وهو استحكام قوّة شبابه وسنه ، كما شدّ النهار ارتفاعه وامتداده ، يقال : أتيته شدّ النهار ومدّ النهار ، وذلك حين امتداده وارتفاعه وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة :
عَهْدِي بِه شَدّ النّهار كأنّمَا ***خُضِبَ اللّبانُ ورأسُهُ بالعِظْلِم
يُطِيفُ بِهِ شَدّ النّهار ظَعِينَةٌ ***طَويلَةُ أنْقاء اليَدَيْن سَحُوقُ
وكان بعص البصريين يزعم أن الأشدّ اسم مثل الاَنك . فأما أهل التأويل فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل بلغ أشدّه ، فقال بعضهم : يقال ذلك له إذا بلغ الحلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عمرو بن الحرث ، عن ربيعة ، في قوله : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال : الحلم .
حدثني أحمد بن عبد الرحن ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، مثله . قال ابن وهب : وقال لي مالك مثله .
حُدثت عن الحماني ، قال : حدثنا هشيم ، عن مجاهد ، عن عامر : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال : الأشدّ : الحلم ، حيث تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات .
وقال آخرون : إنما يقال ذلك له إذا بلغ ثلاثين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ قال : أما أشدّه : فثلاثون سنة ، ثم جاء بعدها : حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ .
وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف . وذلك أن معنى الكلام : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، حتى يبلغ أشدّه ، فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدا فادفعوا إليه ماله . لأنه جلّ ثناؤه لم ينه أن يُقرَب مال اليتيم في حال يتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه ويحلّ لوليه بعد بلوغه أشدّه أن يرقبه بالتي هي أسوأ ، ولكنه نهاهم أن يقربوا حياطة منه له وحفظا عليه ليسلموه إليه إذا بلغ أشدّه .
القول في تأويل قوله تعالى : وأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزَانَ بالقِسْطِ لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسعَها .
يقول تعالى ذكره : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ، وأن أوفوا الكيل والميزان ، يقول : لا تبخسوا الناس الكيل إذا كلتوهم والوزن إذا وزنتموهم ، ولكن أوفوهم حقوقهم وإيفاؤهم ذلك : إعطاوهم حقوقهم تامّة بالقسط ، يعني : بالعدل . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بالقِسْطِ بالعدل .
وقد بيّنا معنى القسط بشواهده فيما مضى وكرهنا إعادته .
وأما قوله : لا نُكَلّفُ نَفْسا إلا وُسْعَها فإنه يقول : لا نكلف نفسا من إيفاء الكيل والوزن إلا ما يسعها ، فيحلّ لها ، ولا تحرَج فيه . وذلك أن الله جلّ ثناؤه علم من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجب عليها له ، فأمر المعطى بإيفاء ربّ الحقّ حقه الذي هو له ولم يكلفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها ، وأمر الذي له الحقّ بأخد حقه ولم يكلفه الرضا بأقلّ منه ، لما في النقصان عنه من ضيق نفسه ، فلم يكلف نفسا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق ، فلذلك قال : لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها . وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا : وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم ، فقولوا الحقّ بينهم ، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا ولو كان الذي يتوجه الحقّ عليه والحكم ذا قرابة لكم ، ولا يحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره ، أن تقولوا غير الحقّ فيما احتكم إليكم فيه . وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا يقول : وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا وإيفاء ذلك أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم ، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك هو الوفاء بعهد الله .
وأما قوله : ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك : هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الاَيتين ، هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا ووصاكم بها ربكم وأمركم بالعمل بها ، لا بالبحائر والسوائب والوصائل والحام وقتل الأولاد ووأد البنات واتباع خطوات الشيطان . لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول : أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الاَيتين ووصاكم بها وعهد إليكم فيها ، لتتذكروا عواقب أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الاَيتين ، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها ، لتتذكروا عواقب أمركم وخطأ ما أنتم عليه مقيمون ، فتنزجروا عنها وترتدعوا وتنيبوا إلى طاعة ربكم . وكان ابن عباس يقول : هذه الاَيات هنّ الاَيات المحكمات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عليّ بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس ، قال : هنّ الاَيات المحمات ، قوله : قُلْ تَعالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئْا .
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت يحيى بن أيوب ، يحدّث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله ، عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار ، قال : سمع كعب الأحبار رجلاً يقرأ : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ فقال : والذي نفس كعب بيده ، إن هذا لأوّل شيء في التوراة «بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن رجل ، عن الربيع بن خيثم أنه قال لرجل : هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد ؟ ثم قرأ هؤلاء الاَيات : قُلْ تَعَالُوا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرّة ، قال : قال الربيع : ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لم يقل خاتمها . فقرأ هذه الاَيات : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : جاء إليه نفر فقالوا : قد جالست أصحاب محمد فحدّثنا عن الوحي فقرأ عليهم هذه الاَيات من الأنعام : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فما عندنا وحي غيره .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال : هؤلاء الاَيات التي أوصى بها من محكم القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا قال : قولوا الحقّ .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره . { حتى يبلغ أشده } حتى يصير بالغا ، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك . { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } بالعدل والتسوية . { لا نكلف نفسا إلا وسعها } إلا ما يسعها ولا يعصر عليها ، وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم . { وإذا قلتم } في حكومة ونحوها . { فاعدلوا } فيه . { ولو كان ذا قربى } ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم . { وبعهد الله أوفوا } يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع . { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } تتعظون به ، وقرأ حمزة وحفص والكسائي { تذكرون } بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها .