جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم : قاتِلُوا أيها المؤمنون القوم الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ يقول : ولا يصدّقون بجنة ولا نار ، وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ يقول : ولا يطيعون الله طاعة الحقّ ، يعني : أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وهم اليهود والنصارى ، وكل مطيع ملكا أو ذا سلطان ، فهو دائن له ، يقال منه : دان فلان لفلان فهو يدين له دينا ، قال زهير :

لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوَ فِي بَنِي أسَدٍ *** فِي دِينَ عَمْروٍ وَحالَتْ بيْنَنا فَدَكُ

وقوله : مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يعني : الذين أعطوا كتاب الله ، وهم أهل التوراة والإنجيل . حتى يُعُطُوا الجِزْيَةَ والجزية : الفعلة من جَزَى فلان فلانا ما عليه : إذا قضاه ، يجزيه . والجزية مثل القِعْدة والجِلْسة .

ومعنى الكلام : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها .

وأما قوله : عَنْ يَدٍ فإنه يعني : من يده إلى يد من يدفعه إليه ، وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرا له شيئا طائعا له أو كارها : أعطاه عن يده وعن يد وذلك نظير قولهم : كلمته فما لفم ولقيته كفة لكفة ، وكذلك أعطيته عن يد ليد .

وأما قوله : وَهُمْ صَاغِرُونَ فإن معناه : وهم أذلاء مقهورون ، يقال للذليل الحقير : صاغر . وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم ، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عروة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

واختلف أهل التأويل في معنى الصغار الذي عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : أن يعطيها وهو قائم والاَخذ جالس . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن سعد ، عن عكرمة : حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قال : أي تأخذها وأنت جالس وهو قائم .

وقال آخرون : معنى قوله : حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها وهم كارهون ، وذلك قول رُوي عن ابن عباس من وجه فيه نظر .

وقال آخرون : إعطاؤهم إياها هو الصغار .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في " أول البقرة " فإن إيمانهم كلا إيمان . { ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله } ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا . { ولا يدينون دين الحق } الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها . { من الذين أوتوا الكتاب } بيان للذين لا يؤمنون . { حتى يُعطوا الجزية } ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه . { عن يدٍ } حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين ، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه ، أو عن غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير ، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة . { وهم صاغرون } أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه . ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمان بن عوف رضي الله تعالى عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر . وأنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين ، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب ، وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب .