وقوله - سبحانه - { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته .
والرعد : اسم للصوت الهائل الذي يسمع إثر تفجير شحنة كهربية في طبقات الجو .
وعطف - سبحانه - الرعد على البرق والسحاب ، لأنه مقارن لهما في كثير من الأحوال . والتسبيح : مشتق من السبح وهو المرور السريع في الماء أو في الهواء وسمى الذاكر الله - تعالى - مسبحا ، لأنه مسرع في تنزيهه سبحانه عن كل نقص .
وتسبيح الرعد - وهو هذا الصوت الهائل - بحمد الله ، يجب أن نؤمن به ، ونفوض كيفيته إلى الله - تعالى - لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو - سبحانه - وقد بين لنا - سبحانه - في كتابه أن كل شئ يسبح بحمده فقال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وقد فصل القول في معنى هذه الجملة الكريمة الإِمام الآلوسى فقال - رحمه الله - ما ملخصه :
وقوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد } قيل هو اسم للصوت المعلوم ، والكلام على حذف مضاف أى : ويسبح سامعو الرعد بحمده - سبحانه - رجاء للمطر .
ثم قال : والذى اختاره أكثر المحدثين كون الإِسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، فقد أخرج أحمد والترمذى وصححه والنسائى وآخرون عن ابن عباس أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ فقال : " ملك من ملائكة الله - تعالى - موكّل بالسحاب ، بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله - تعالى - قالوا .
فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال صوته - قالوا : صدقت " .
ثم قال : واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره ، وقد نكر في سورة البقرة في قوله - تعالى - { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } وأجيب بأن له إطلاقين : ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت ، والتنكير على هذا الإطلاق . . .
والذى نراه أن تسبيح الرعد بحمد الله يجب الإِيمان به ، سواء أكان الرعد اسما لذلك الصوت المخصوص ؛ أم اسما لملك من الملائكة ، أما كيفية هذا التسبيح فمردها إلى الله .
قال الإِمام الشوكانى : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } أى يسبح الرعد نفسه بحمد الله . أى متلبسا بحمده ، وليس هذا بمستبعد ، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك .
وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك ، ويكون ذكره على الإِفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له . وعناية به
وقال الإِمام ابن كثير : قال الإِمام أحمد : حدثنا عفان . . عن سالم عن أبيه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق . . عن أبى هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد قال : " سبحان من يسبح الرعد بحمده " .
وقوله - سبحانه - { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } نوع رابع من الأدلة الدالة على وحدانية الله وقدرته . أى ويسبح الرعد بحمد الله ، ويسبح الملائكة - أيضا - بحمد الله ، خوفا منه - تعالى - وإجلالا لمقامه وذاته .
و { من } في قوله - تعالى { مِنْ خِيفَتِهِ } للتعليل ، أى : يسبحون لأجل الخوف منه . وقوله { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } نوع خامس من الظواهر الكونية الدالة على كما قدرته - سبحانه - .
والصواعق جمع صاعقة ، وهى - كما يقول ابن جرير - كل أمر هائل رآه الرائى أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل . . .
والمراد بها هنا : النار النازلة من السماء .
أى ويرسل - سبحانه - الصواعق المهلكة فيصيب بها من يشاء إصابته من خلقه .
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في رجل من طواغيت العرب ، بعث النبى - صلى الله عليه وسلم - نفرا يدعونه إلى الإِسلام ، فقال لهم : أخبرونى عن رب محمد ما هو ، أمن فضه أم من حديد ؟
فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة فأهلكت الكافر وهم جلوس .
رجعوا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فاستقبلهم بعض الصحابة فقالوا لهم : احترق صاحبكم ؟ فقالوا : من أين علمتم ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ }
وضمير الجماعة في قوله { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } يعود إلى أولئك الكافرين الذين سبق أن ساق القرآن بعض أقوالهم الباطلة ، والتى منها قولهم : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول .
والمراد بمجادلتهم في الله : تكذيبهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيما أمرهم به من وجوب إخلاص عبادتهم لله - تعالى - وإيمانهم بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب .
والمحال : الكيد والمكر ، والتدبير والقوة ، والعقاب . . يقال : محل فلان بفلان - بتثليث الحاء - محلا ومحالا ، إذا كاده وعرضه للهلاك .
قال القرطبى : قال ابن الأعرابى : المحال المكر وهو من الله - تعالى - التدبير بالحق أو إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر .
وقال الأزهرى : المحال : أى القوة والشدة .
وقال أبو عبيد : المحال : العقوبة والمكروه .
أى : أن هؤلاء الكافرين يجادلونك - أيها الرسول في ذات الله وفى صفاته ، وفى وحدانيته ، وفى شأن البعث ، وينكرون ما جئتهم به من بينات والحال أن الله - تعالى - { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }
جعل البرق آية نذارة وبشارة معاً لأنهم كانوا يَسِمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه .
وإنشاء السحاب : تكوينه من عدم بإثارة الأبْخرة التي تتجمع سحاباً .
والسحاب : اسم جمع لسحابة . والثقال : جمع ثقيلة . والثقل كون الجسم أكثر كمية أجزاء من أمثاله ، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام ، فرب شيء يعد ثقيلاً في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر . والسحاب يكون ثقيلاً بمقدار ما في خلاله من البخار . وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح . والخفيف منه يُسمى جهاماً .
وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال .
ولما كان الرعد صوتاً عظيماً جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء ، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلاً على تنزيه الله تعالى ، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي . ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يُسبح الله تعالى ، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح ، أي قول سبحان الله .
والباء في { بحمده } للملابسة ، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد . فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساوٍ للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد . فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية .
و { الملائكة } عطف على الرعد ، أي وتسبح الملائكة من خيفته ، أي من خوف الله .
و { من } للتعليل ، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه ، أي الخوف مما لا يرضى به وهو التقصير في تنزيهه .
وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين ، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة ، فالله غني عن تنزيهكم إياه ، كقوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } [ سورة الزمر : 7 ] ، وقوله : { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد } [ سورة إبراهيم : 8 ] .
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار . كما قال في آية سورة البقرة { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } [ سورة البقرة : 19 ] . وكان العرب يخافون الصواعق . ولقبوا خويلد بن نفيل الصَعِق لأنه أصابته صاعقة أحرقته .
ومن هذا القبيل قول النبي : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده ، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعاً .
وجملة { وهم يجادلون في الله } في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله : { وإن تعجب فعجب قولهم } [ الرعد : 5 ] الخ . فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [ الرعد : 1 ] وقوله : { أولئك الذين كفروا بربهم } [ الرعد : 5 ] وقوله : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الرعد : 7 ] . وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين .
والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول . وتقدم في قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) .
وقد فهم أن مفعول يجادلون } هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون . فالتقدير : يجادلونك أو يجادلونكم ، كقوله : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة الأنفال ( 6 ) .
والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال ، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل { يجادلون } يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة ، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث .
ومن جدلهم ما حكاه قوله : { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } في سورة يس ( 77 ، 78 ) .
والمِحال : بكسر الميم يحتمل هنا معنيين ، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فِعال بمعنى الكيد وفعله مَحَل ، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل .
جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم : { من يُحيي العظام وهي رميم } فقوبل ب { شديد المحال } على طريقة المشاكلة ، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه ، ونظيره { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ سورة آل عمران : 54 ] .
وقال نفطويه : هو من ماحل عن أمره ، أي جَادل . والمعنى : وهو شديد المجادلة ، أي قوي الحجة .
وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة ، وعلى هذا فإبدال الواو ألفاً على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكوناً حياً . فلعلهم قلبوها ألفاً للتفرقة بينه وبين مِحول بمعنى صبي ذي حول ، أي سنة .
وذكر الواحدي والطبري أخباراً عن أنس وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطاً لم يقبلها منهما النبي . فهمّ أرْبَد بقتل النبي فصرفه الله ، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي بأن يجلبا عليه خيل بني عامر . فأهلك الله أربَد بصاعقة أصابته وأهلك عامراً بِغُدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه ، فنزلت في أربد { ويرسل الصواعق } وفي عامر { وهم يجادلون في الله } .
وذكر الطبري عن صحار العبدي : أنها نزلت في جبار آخر . وعن مجاهد : أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة .
ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أوْ أن هذه الآيات منها مدنية ، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول . ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية . وفي هذه القصة أرسل عامر بن الطفيل قوله : « أغُدّة كغدة البعير وموت في بيت سلولية » مثلاً . ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربدَ بأبيات منها :
أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نَوْء السِماك والأسد{[254]}
عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. ثم يقول: إن هذا لوعيد، لأهل الأرض شديد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
معنى قوله:"وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ" ويعظم الله الرعدُ ويمجده، فيثنى عليه بصفاته، وينزّهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد، تعالى ربنا وتقدّس.
وقوله: "مِنْ خِيفَتِهِ "يقول: وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته.
وأما قوله: "وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ" فقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى بما أغنى عن إعادته...
وقوله: "وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ" يقول: وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" يقول تعالى ذكره والله شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره. والمِحال: مصدر من قول القائل: ماحَلتُ فلانا فأنا أماحله مماحلة ومحالاً، وفَعَلْتُ منه: مَحَلت أَمْحَل مَحْلاً: إذا عَرّض رجل رجلاً لما يهلكه... وفسّر ذلك معمر بن المثنى، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال... عن عليّ رضي الله عنه: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" قال: شديد الأخذ... عن مجاهد: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" قال: شديد القوّة... عن قتادة: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" أي القوّة والحيلة...
والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل المحال أنه الحيلة، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن: «وَهُوَ شَدِيدُ المَحَال» بفتح الميم، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها مِحَالاً بكسر الميم، ولكن قد يأتي على تقدير المَفْعلة منها، فيكون مَحَالة، ومن ذلك قولهم: «المرء يعجز لا مَحالة»، والمحالة في هذا الموضع: المفعلة من الحيلة. فأما بكسر الميم، فلا تكون إلا مصدرا، من ما حلت فلانا أما حلهِ محالاً، والمماحلة بعيدة المعنى من الحيلة، ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"ويسبح الرعد بحمده" أي يذكِّرهم سلطانَه وعظمته، فيكون ذلك تسبيحه وما ذُكِّروا من سلطانه وعظمته.. "والملائكة من خيفته": الخوف يخرج على وجهين: أحدهما: خوف من عقوبته لأنه قد جاء فيهم الوعيد إذا زلوا كقوله: (ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم) [الأنبياء: 29]. والثاني: خوف رهبة وهيبة، لا خوف عقوبة، لأن الله تعالى وصفهم بالطاعة والاستسلام كقوله: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم: 6] وقوله: (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) [الأنبياء: 19] ونحو ذلك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"ويسبح الرعد بحمده" فالتسبيح: تنزيه الله عز وجل عما لا يجوز عليه، والتنزيه له من كل صفة نقص تضاف إليه، وأصله البراءة من الشيء.
والرعد: اصطكاك أجرام السحاب بقدرة الله تعالى، وفيه أعظم العبرة وأوضح الدلالة، لأنه مع ثقله وهوله، وغلظ جرمه حتى يسمع مثل الرعد في عظمه معلق بقدرته تعالى لا يسقط إلى الأرض منه شيء ثم ينقشع كأنه لم يكن، ولا شيء منه... والحمد: الوصف بالجميل من الإحسان على وجه التعظيم...
وقوله: "ويرسل الصواعق "وهي جمع صاعقة وهي نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة من شدة الرعد وعظم الأمر يقال: إنها قد تسقط على النخلة وكثير من الأشجار تحرقها، وعلى الحيوان فتقتله.
وقوله: "فيصيب بها" يعني بالصاعقة من يشاء من عباده.
وقوله "وهم يجادلون في الله" يعني هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل التوحيد، ويحاولون فتلهم عن مذهبهم بجدالهم. والجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج.
وقوله: "وهو شديد المحال" فالشدة: قوة العقدة... وشدة العقاب قوته يغلظ على النفس، كقوة العقدة. والمحال: الأخذ بالعقاب، يقال ماحلت فلانا... إذا فتلته إلى هلكه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَهُمْ} يعني الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته {يجادلون فِي الله} حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم {مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم الملائكة بَنَات الله، فهذا جدالهم بالباطل، كقوله: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {وهو شديد المحال} لأن المحال -ككتاب: الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَهُمْ} أي الكفرةُ المخاطبون في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} وقد التُفت إلى الغَيبة إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخِطاب وإعراضاً عنهم وتعديداً لجناياتهم لدى كلِّ من يستحق الخطابَ كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثالَ هذه الأفاعيلِ العجيبةِ من إراءة البرقِ وإنشاء السحابِ الثقالِ وإرسالِ الصواعقِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه ويعقِلُها مَنْ يعقِلها من المؤمنين...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وهم يجادلون في الله} أي يجادلون في شأنه تعالى، وفيما وصفه به الرسول الكريم، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب. وفي هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية سلاّه بما ذكر كأنه قال له: إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون في الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه.. في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال: (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)! وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق، الناطقة كلها بوجود الله -الذي يجادلون فيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والباء في {بحمده} للملابسة، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد...
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ويسبح الرعد بحمده} يشبه قوله تعالى في نفس السياق: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال}. والمراد التنبيه إلى أصوات الرعد الهائلة المماثلة للانفجار، وإلى ما يرافقها أحيانا من صواعق تحرق الأخضر واليابس، الأمر الذي يدل على قدرة الله، ويثير في النفوس الخوف من عذاب الله، مما يهز كيان الإنسان، ولو كان ضعيف الإيمان، ويضطره إلى تسبيح الله وتنزيهه ولو لم يكن ذلك باللسان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} والتسبيح تعبيرٌ عن الإحساس بالعظمة وتنزيهه عن كل نقص. وبذلك أمكن لكل شيءٍ أن يسبّح بحمده بمختلف الوسائل، سواء كان بالكلمة، أو بالصورة، أو بمظهر العظمة، أو بروعة الإبداع، أو بسرّ المعنى الكبير الكامن فيه. إنه الفرق بين الكلمة التي تسبح بمدلولها ومعناها، وبين الوجود الذي يسبِّح بحضور الحقيقة فيه.. وهكذا يجد الإنسان في كل شيء تجسيداً لتسبيح الله، والثناء عليه، بما يدل عليه من معاني العظمة والتنزيه له. {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} بما يتمثلونه من خشية الله وإحساسٍ بعظمته، فيسبحونه إعلاناً للطاعة، وابتعاداً عن المعصية، ورغبةً في ثوابه، وخوفاً من عقابه. إنه الخوف الذي يحرّك الإحساس بالمسؤولية في وعي المخلوق، انطلاقاً من الإحساس الواعي بالعظمة، وليس الخوف الذي يسحق الذات ويسقط إحساسها بالحياة، {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يشاءُ} ويصرفها عمن يشاء، وهذا المعنى يوحي به جوّ الآية، ولعل الاقتصار على فقرة التخويف بإرسال الصواعق، سببه أنّ السياق هو سياق التخويف والترهيب. {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} بين من يشك فيه وبين من يشرك به، من دون حجةٍ يستندون إليها، ولا برهان يعتمدون عليه. وبذلك يخبطون خبط عشواء في جدالهم، منطلقين من استبعادات لا أساس لها، أو موروثاتٍ لا حجة عليها. ولو انفتحوا على آيات الله في الكون، وتأملوا في مظاهر عظمته ومواقع نعمته، لما جادلوا بالباطل، بل لكانوا انطلقوا في طريق الحق بكل قوّةٍ وانفتاح، ولأدركوا كيف ينبغي لهم أن يخافوا الله ويحذروا عقابه، فلا يستهينوا بتوحيده.