وبعد هذا الحديث المستفيض الذي لم ينته بعد عن الطلاق وأحكامه وآدابه ، أورد القرآن آيتين كريمتين تأمران بالمحافظة على الصلاة وبالمداومة على طاعة الله ، وبالملازمة لذكره - عز وجل - فقال - تعالى :
{ حَافِظُواْ عَلَى الصلوات . . . }
لعل السر في توسط هاتين الآيتين بين أيات الأحكام التي تحدثت عن الطلاق ، والعدة والرضاع والخطبة . . . إلخ ، لعل السر في ذلك أن هذه الأمور كثيرة ما تكون مثار تنازع وتخاصم وتقاطع بين الناس ، فأراد القرآن بطريقته الحكيمة ، وبأسلوبه المؤثر أن يقول للناس : إن محافظتكم على الصلاة ، ومداومتكم على طاعة الله وذكره كل ذلك سيعرض في نفوسكم المراقبة له - سبحانه - ، والخشية من عقابه ، وسيعينكم على أن تحلوا قضاياكم التي تتعلق بالطلاق وغيره بالعدل والإِحسان والتسامح والتعاطف ، لأن من حافظ على فرائض الله وأومره ، انصرفت نفسه عن ظلم الناس ، وعاملهم معاملة كريمة حسنة . وقد بين القبرآن في كثير من آياته أن المحافظة على الصلاة بخشوع وخضوع لله - تعالى - وأن المداومة على ذكره ، والملازمة لطاعته كل ذلك من شأنه أن يمنع الإِنسان من الوقوع فيما نهى الله عنه ، قال - تعالى - : { اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } وقال - تعالى - : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } وقال - تعالى - : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } فكأن الله - تعالى - يقول للناس : لقد أمرتكم بالمحافظة على الصلاة ، وبالمداومة على طاعتي وذكري خلال حديثي عن أحكام كثيرة ما تكون هذه الأحكام مثار تنازع بينكم ، وذلك لكي تحلوا التسامح والتوال والتقارب محل التشاحن والتدابر والتجافي ، لأن من شأن المحافظة على هذه العبادات ، أن تهدي الناس إلى أكمل الأخلاق والصفات .
فسبحان من هذا كلامه ، ومن تلك إرشاداته وتوجيهاته ، ووصاياه .
وقوله - تعالى - : { حَافِظُوا } من الحفظ بمعنى ضبط الشيء ، وصيانته عن كل تضييع ، وهو خلاف النسيان . والخطاب لجميع المكلفين من أفراد الأمة .
والمعنى : حافظوا على معشر المسلمين والمسلمات على أداء الصلوات في أوقاتها بخشوع وخضوع وإخلاص لله رب العالمين ، وحافظوا بصفة خاصة على الصلاة الوسطى ، لما هلا من منزلة سامية ، ومكانة عالية .
فقد أمر الله - تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات بصفة عامة ، وأفراد الصلاة الوسطى بالذكر تفخيماً لشأنها ، وإعلاء لقدرها من بين أفراد جنسها ، والمسلم يكون محافظاً على الصلاة إذا أداها في وقتها مستوفية لآدابها وسننها وشرائعها وخشوعها وكل ما يتعلق بها ، أما إذا قصر في شيء من ذلك فإنه لا يكون محافظاً عليها تلك المحافظة التامة التي أمر الله بها .
وفي قوله - تعالى - : { حَافِظُوا } تنبيه إلى أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس ثمين تجب المحافظة عليه ، لأن هذه الكلمية تدل على الصيانة والضبط بجانب دلالتها على الأداءؤ والإِقامة والمداومة .
قال الإِمام الرازي : وقوله : { حَافِظُوا } بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين . للدلالة على أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب . فكأنه قيل : احفظ الصلاة ليحفظك الإِله الذي أمرك بها . وهذا كقوله : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } وفي الحديث " احفظ الله يحفظك " أو أن تكون المحافظة بين المصلى والصلاة . فكأنه قيل : " احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة بمعنى أنها تحفظك من ارتكابا المعاصي ، وتشفع لمصليها يوم القيامة "
وللعلماء أقوال في المراد بالصلاة الوسطى التي أفردها الله - تعالى - من بين الصلوات .
فجمهور العلماء يرون أنها واحدة من بين الصلوات الخمس المفروضة ، وأن الوسطى مؤنث الأوسط أي الشيء المتوسط بين شيئين ، فالصلاة الوسطى هي الصلاة المتوسطة بين صلاتين ، إلا أنهم اختلفوا في تعيينها .
فأكثر العلماء على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، لأنها تقع في وسط الصلوات الخمس ، إذ قبلها اثنتان وبعدها اثنتان ، ولأنها وسط بين صلاتي النهار ، وصلاتي الليل ، فمعنى التوسط فيها واضح ، ولأنها مظنة التقصير لمجيئها بعد وقت الظهيرة الذي يكون في الغالب وقت كسل .
وفضلا عن ذلك فقد صرحت بعض الأحاديث بأنها صلاة العصر ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عدداً من هذه الأحاديث ومنها ما جاء في صحيح مسلم ومسند الإِمام أحمد عن علي بن أبي طالب قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً ، ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء " ، وفي مسند الإِمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " .
وقد خصت صلاة العصر بمزيد من التأكيد ، وبالأمر بالمحافظة عليها ، وبالتحذير من التقصير فيها ، مما يشهد بأنها هي الصلاة الوسطى ، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " أي : سلب من أهله وماله فبقي وحيداً بدونهما .
وقال بعضهم المراد بالصلاة الوسطى صلاة الصبح ، وقيل صلاة الظهر ، وقيل صلاة المغرب ، وقيل العشاء ، وقيل الجمعة ، وقيل غير ذلك من الأقوال التي لا تبلغ في قوتها مبلغ قول القائلين بأنها صلاة العصر ، ولذا قال ابن كثير وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ، ومعترك النزاع في الصبح والعصر ، وقد أثبتت السنة أنها العصر فتعين المصير إليها - أي إلى أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر .
ومن العلماء من اتجه في بيان المراد من الصلاة الوسطى اتجاهاً آخر فهو يرى أن المراد بالصلاة الوسطى الصلوات كلها ، وأن الوسطى ليست بمعنى المتوسطة بين صلاتين ، وإنما هي بمعنى الفضل لأن وسط الشيء خياره وأعدله وأفضله فالمقصود بها فعلها أو أداؤها بطريقة سليمة كاملة .
والمعنى على هذا الرأي : حافظوا يا معشر المسلمين على الصلوات كلها ، وحافظوا على أن يكون أداؤكم لها بطريقة وسطى أي فاضلة بأن تأدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والآداب والخشوع .
قال ابن كثير : " وقيل بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وفي صحته نظر . والعجب أن هذا القول قد اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر إمام ما وراء البحر ، وإنها لإِحدى الكبر ، إذ اختار مع إطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من الكتاب ولا سنة ولا أثر " .
ومن العلماء المحدثين الذين استحسنوا هذا الرأي الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فقد قال : " ولولا أنهم اتفقوا على أنها - أي الصلاة الوسطى - إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله : " الصلاة الوسطى " أن المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى أي : حافظوا على أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله - تعالى - وتخشع لذكره ، وتدبر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين " .
والذي نراه أن ما عليه الجمهور من أن الصلاة الوسطى هي واحدة من بين الصلوات الخمس ، وأنها صلاة العصر هو أقوى الآراء ، لأنه - أولا - يتفق مع أصحاب الاتجاه الثاني الذين يقولون بأن أداء الصلاة يجب أن يكون بطريقة تامة الأركان والسنن والخشوع وما قال أحد منهم بأن تحديدها بصلاة العصر ينفي أداء بقية الفرائض بكمال واطمئنان . ولأنه - ثانياً - قد امتاز عن رأي أصحاب الاتجاه الثاني بأنه أعمل النص الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، ولا شك أن إعمال النص أولى من إهماله أو من تأويله تأويلا ضعيفا .
وقوله : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } مؤكدا لما قبله من المحافظة والمداومة على أداء الصلاة .
والقنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع والخشوع . أي قوموا في الصلاة مطيعين لله - تعالى - مؤيدين لها على وجهها الكامل في خشوع وخضوع واطمئنان .
الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط ، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها ، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة ، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول ، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة ، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني ، أو في انسجام نظم الكلام ، فلعل آية { حافظوا على الصلوات } نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى ، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها ، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد .
وإذا أبيت ألاّ تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية : ابتداء من قوله : { يسألونك ماذا ينفقون } [ البقرة : 215 ] ، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله : { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } [ البقرة : 237 ] فإن الله دعانا إلى خلق حميد ، وهو العفو عن الحقوق ، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس ، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم ، من مال وغيره كالانتقام من الظالم ، وكان في طباع الأنفس الشح ، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين ، أحدهما دنيوي عقلي ، وهو قوله : { ولا تنسوا الفضل بينكم } ، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد ، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك ، إذا تعارف الناس الفضل بينهم ، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق .
الدواء الثاني أخروي روحاني : وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق ، حث الله على المحافظة عليها .
ولك أن تقول : لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي : « أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها » .
وقال بعضهم : « لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله » وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ البقرة : 239 ] أي من قوانين المعاملات النظامية .
وعلى هذين الوجهين الآخرين تكون جملة { حافظوا على الصلوات } معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] بين جملة { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي } [ البقرة : 40 ] . وبين جملة { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 122 ] وكموقع جملة { يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } [ البقرة : 153 ] بين جملة { فلا تخشوهم واخشوني } [ البقرة : 150 ] الآية وبين جملة : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } [ البقرة : 154 ] الآية .
و { حافظوا } صيغة مفاعلة استعملت هنا للمبالغة على غير حقيقتها ، والمحافظة عليها هي المحافظة على أوقاتها من أن تؤخر عنها والمحافظة تؤذن بأن المتعلق بها حق عظيم يُخشى التفريط فيه . والمراد : الصلوات المفروضة . « وأل » في الصلوات للعهد ، وهي الصلوات الخمس المتكررة ؛ لأنها التي تُطلب المحافظة عليها .
{ والصلاة الوسطى } لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض ، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف وموصوفة بأنها وسطى ، فسمعها المسلمون وقرأوها ، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا ، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع ، فلما تذاكروها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولاً ، بالتفريق والجمع ، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك ؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى ، أو من الوصاية بالمحافظة عليها .
فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى : فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل ، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض ، مثل قوله تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } [ الإسراء : 78 ] وحديث عائشة : " أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب " .
ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط : وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب ، ولما كانت كل واحدة من الصلوات الخمس صالحة لأن تعتبر واقعة بين صلاتين ، لأن ابتداء الأوقات اعتباري ، ذهبوا يعينون المبدأ فمنهم من جعل المبدأ ابتداء النهار ، فجعل مبدأ الصلوات الخمس صلاة الصبح فقضى بأن الوسطى العصر ، ومنهم من جعل المبدأ الظهر ، لأنها أول صلاة فرضت ؛ كما في حديث جبريل في « الموطأ » ، فجعل الوسطى : المغرب .
وأما الذين تعلقوا بدليل الوصاية على المحافظة ، فذهبوا يتطلبون أشق صلاة على الناس تكثر المثبطات عنها ، فقال قوم : هي الظهر لأنها أشق صلاة عليهم بالمدينة ، كانوا أهل شغل ، وكانت تأتيهم الظهر وهم قد أتعبتهم أعمالهم ، وربما كانوا في إكمال أعمالهم ، وقال قوم : هي العشاء ؛ لما ورد أنها أثقل صلاة على المنافقين ، وقال بعضهم : هي العصر لأنها وقت شغل وعمل ؛ وقال قوم : هي الصبح لأنها وقت نوم في الصيف ، ووقت تطلب الدفء في الشتاء .
وأصح ما في هذا الخلاف : ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان :
أحدهما أنها الصبح ، هذا قول جمهور فقهاء المدينة وهو قول عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وعائشة وحفصة وجابر بن عبد الله ، وبه قال مالك ، وهو عن الشافعي أيضاً ، لأن الشائع عندهم أنها الصبح ، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو قرينة حال .
القول الثاني : أنها العصر ، وهذا قول جمهور من أهل الحديث ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وروي عن علي أيضاً ، وهو الأصح عن ابن عباس أيضاً وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، ونسب إلى عائشة وحفصة والحسن ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في رواية ، ومال إليه ابن حبيب من المالكية ، وحجتهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومَ الخندق حين نسي أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق ، حتى غربت الشمس فقال : « شغلونا أي المشركون عن الصلاة الوسطى ، أضرم الله قبورهم ناراً » .
والأصح من هذين القولين أولهما لما في « الموطأ » و« الصحيحين » أن عائشة وحفصة أمَرَتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تسنده حفصة ، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر ، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح ، هذا من جهة الأثر .
وأما من جهة مسالك الأدلة المتقدمة ، فأفضلية الصبح ثابتة بالقرآن ، قال تعالى مخصصاً لها بالذكر { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } [ الإسراء : 78 ] وفي الصحيح أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون عند صلاة الصبح ، وتوسطها بالمعنى الحقيقي ظاهر ، لأن وقتها بين الليل والنهار ، فالظهر والعصر نهاريتان ، والمغرب والعشاء ليليتان ، والصبح وقت متردد بين الوقتين ، حتى إن الشرع عامل نافلته معاملة نوافل النهار فشرع فيها الإسرار ، وفريضته معاملة فرائض الليل فشرع فيها الجهر .
ومن جهة الوصاية بالمحافظة عليها ، هي أجدر الصلوات بذلك لأنها الصلاة التي تكثر المثبطات عنها ، باختلاف الأقاليم والعصور والأمم ، بخلاف غيرها فقد تشق إحدى الصلوات الأخرى على طائفة دون أخرى ، بحسب الأحوال والأقاليم والفصول .
ومن الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات ، وهذا قول باطل ؛ لأن الله تعالى عرَّفها باللام ووصفها فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد ، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام وصحت الآثار بأنها غير معينة .
هذا خلاصة ما يعرض هنا في تفسير الآية .
وقوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } أمر بالقيام في الصلاة بخضوع ، فالقيام الوقوف ، وهو ركن في الصلاة فلا يترك إلا لعذر ، وأما القنوت : فهو الخضوع والخشوع قال تعالى : { وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] وقال : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً } [ النحل : 120 ] وسمي به الدعاء المخصوص الذي يدعى به في صلاة الصبح أو في صلاة المغرب ، على خلاف بينهم ، وهو هنا محمول على الخضوع والخشوع ، وفي الصحيح عن ابن مسعود « كنا نسلم على رسول الله وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال : إن في الصلاة لشغلاً » وعن زيد بن أرقم : كان الرجل يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت . فليس { قانتين } هنا بمعنى قارئين دعاء القنوت ، لأن ذلك الدعاء إنما سمي قنوتاً استرواحاً من هذه الآية عند الذين فسروا الوسطى بصلاة الصبح كما في حديث أنس « دعا النبي على رعل وذكوان في صلاة الغداة شهراً وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{حافظوا على الصلوات}: الخمس في مواقيتها. {والصلاة الوسطى}: يعني صلاة العصر. {وقوموا لله قانتين}: في صلاتكم، يعني مطيعين.
176- مكي: روى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك: أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح. وقال مالك: الظهر والعصر في النهار، والمغرب والعشاء في الليل، والصبح فيما بين ذلك، قال مالك: والصبح لا تجمع إلى غيرها. وقد يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، قال مالك: وهي كثيرا ما تفوت الناس وينامون عنها.
- ابن رشد: سئل مالك عن تفسير هذه الآية فيما كانت تكتب عائشة وحفصة: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وصلاة العصر، أهي صلاة العصر، أو غير صلاة العصر؟ قال: بل هي غير صلاة العصر...
قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوَاتِ} والمحافظة على الشيء: تعجيله. ومن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن أول وقتها. وفي قوله: {وَالصَّلَواةِ اِلْوُسْطى} فذهبنا إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في الصبح إن لم تكن هي، أن تكون مما أمرنا بالمحافظة عليه. وعن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها أَمْلَتْ عليه: {حَافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ اِلْوُسْطى وصلواة العصر} ثم قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحديث عائشة يدل على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر. واختلف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروي عن علي وابن عباس: أنها الصبح: وإلى هذا نذهب... (أحكام الشافعي: 1/59-60. ون اختلاف الحديث ص: 522. والرسالة: 289. ومعرفة السنن والآثار: 1/476.)... ــــــــــــ
قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلهِ قَانِتِينَ}. قال الشافعي: من خوطب بالقنوت مطلقا، ذهب إلى أنه قيام في الصلاة، وذلك أن القنوت قيام لمعنى طاعة الله عز وجل، وإذا كان هكذا، فهو موضع كف عن قراءة. وإذا كان هكذا أشبه أن يكون قياما ـ في صلاة ـ لدعاء، لا لقراءة. فهذا أظهر معانيه، وعليه دلالة السنة وهو أولى المعاني أن يقال به عندي، والله أعلم... وروي عن عبد الله بن عمر: قيل: أي الصلاة؟ قال: طول القنوت وقال طاوس: القنوت طاعة الله عز وجل قال الشافعي رحمه الله: وما وصفت من المعنى الأول أولى المعاني به، والله أعلم. قال: فلما كان القنوت بعض القيام دون بعض، لم يجُزْ ـ والله أعلم ـ أن يكون إلا ما دلت عليه السنة: من القنوت للدعاء، دون القراءة. قال: واحتمل قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلهِ قَانِتِينَ} قانتين في الصلاة كلها، وفي بعضها دون بعض. فلما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ثم ترك القنوت في بعضها، وحفظ عنه القنوت في الصبح خاصة، دل هذا على أنه إن كان الله أراد بالقنوت: القنوت في الصلاة، فإنما أراد به خاصا... واحتمل أن يكون في الصلوات، في النازلة. واحتمل طول القنوت: طولَ القيام. واحتمل القنوت: طاعة الله. واحتمل: السكات. قال الشافعي: ولا أرخص في ترك القنوت في الصبح بحال، لأنه إن كان اختيارا من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، لم أرخص في ترك الاختيار. وإن كان فرضا: كان مما لا يتبين تركه. ولو تركه تارك كان عليه أن يسجد للسَّهو، كما يكون ذلك عليه لو ترك الجلوس في شيء. (أحكام الشافعي: 1/78-79. ن الأم: 1/80. مناقب الشافعي: 1/299. أحكام الشافعي: 1/80. معرفة السنن الآثار: 2/137.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ.
عن مسروق في قوله: "حافظوا على الصلوات"، قال: المحافظة عليها: المحافظة على وقتها، وعدم السهو عنها.
ثم اختلفوا في "الصلاة الوسطى"؛ فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة الظهر.
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة المغرب.
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى هي صلاة الغداة: صلاة الصبح.
وقال آخرون: هي إحدى الصلوات الخمس، ولا نعرفها بعينها.
عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة قال: سألت الربيع بن خثيم عن الصلاة الوسطى، قال: أرأيت إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قلت: لا! فقالا فإنك إن حافظت عليهن فقد حافظت عليها.
والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله: وهو أنها العصر...
فحث صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها حثا لم يحث مثله على غيرها من الصلوات، وإن كانت المحافظة على جميعها واجبة، فكان بينا بذلك أن التي خص الله بالحث على المحافظة عليها، بعد ما عم الأمر بها جميع المكتوبات، هي التي اتبعه فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، فخصها من الحض عليها بما لم يخصص به غيرها من الصلوات، وحذر أمته من تضييعها ما حل بمن قبلهم من الأمم التي وصف أمرها، ووعدهم من الأجر على المحافظة عليها ضعفي ما وعد على غيرها من سائر الصلوات.
وأحسب أن ذلك كان كذلك، لأن الله تعالى ذكره جعل الليل سكنا، والناس من شغلهم بطلب المعاش والتصرف في أسباب المكاسب= هادئون، إلا القليل منهم، وللمحافظة على فرائض الله وإقام الصلوات المكتوبات فارغون. وكذلك ذلك في صلاة الصبح، لأن ذلك وقت قليل من يتصرف فيه للمكاسب والمطالب، ولا مؤونة عليهم في المحافظة عليها. وأما صلاة الظهر، فان وقتها وقت قائلة الناس واستراحتهم من مطالبهم، في أوقات شدة الحر وامتداد ساعات النهار، ووقت توديع النفوس والتفرغ لراحة الأبدان في أوان البرد وأيام الشتاء وأن المعروف من الأوقات لتصرف الناس في مطالبهم ومكاسبهم، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم وقتان من النهار.
أحدهما أول النهار بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت، وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم، وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه، من غير أن يفرضها عليهم، وهي صلاة الضحى.
والآخر منهما آخر النهار، وذلك من بعد إبراد الناس إمكان التصرف وطلب المعاش صيفا وشتاء، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر، ثم حث على المحافظة عليها لئلا يضيعوها لما علم من إيثار عباده أسباب عاجل دنياهم وطلب معايشهم فيها، على أسباب آجل آخرتهم بما حثهم به عليه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ووعدهم من جزيل ثوابه على المحافظة عليها ما قد ذكرت بعضه في كتابنا هذا، وسنذكر باقيه في كتابنا الأكبر إن شاء الله من (كتاب أحكام الشرائع).
وإنما قيل لها "الوسطى "لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن.
"وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ": اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"قانتين".
فقال بعضهم: معنى القنوت: الطاعة. ومعنى ذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له فيما أمركم به فيها ونهاكم عنه.
وقال آخرون: "القنوت" في هذه الآية، السكوت. وقالوا: تأويل الآية: وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم...
وقال آخرون: "القنوت" في هذه الآية، الركوع في الصلاة والخشوع فيها. وقالوا في تأويل الآية: وقوموا لله في صلاتكم خاشعين، خافضي الأجنحة، غير عابثين ولا لاعبين.
وكان الفقهاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدهم إلى الصلاة، لم يلتفت، ولم يقلب الحصى، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف.
وقال آخرون: بل "القنوت"، في هذا الموضع، الدعاء. قالوا: تأويل الآية: وقوموا لله راغبين في صلاتكم. وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وقوموا لله قانتين"، قول من قال: تأويله: "مطيعين".
وذلك أن أصل" القنوت"، الطاعة، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله عنه من الكلام فيها. ولذلك وجه من وجه تأويل "القنوت" في هذا الموضع، إلى السكوت في الصلاة أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله... [و] القنوت ": السكوت، و "القنوت" الطاعة.
وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع، وخفض الجناح، وإطالة القيام، وبالدعاء، لأن كل ذلك غير خارج من أحد معنيين؛ من أن يكون مما أمر به المصلي، أو مما ندب إليه، والعبد بكل ذلك لله مطيع، وهو لربه فيه قانت. و "القنوت ": أصله الطاعة لله، ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد.
فتأويل الآية إذا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله فيها مطيعين، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام، سوى قراءة القرآن فيها، أو ذكر الله بالذي هو أهله، أو دعائه فيها، غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها، والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{حافظوا على الصلوات}: والمحافظة هو المفاعلة، هو فعل بين اثنين؛ فهو، والله أعلم، أنه إذا حفظها على وقتها، ولم يسه عنها حفظه، وهو كما ذكر في آية أخرى: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه: (أن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر)؛ فعلى ذلك إذا حفظها على أوقاتها مع أحكامها وسننها، ولم يدخل ما ليس فيها من الكلام والالتفات وغير ذلك مما نهى عنه حفظته، وكذلك قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران: 133] وقوله: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} [الحديد: 21] من المفاعلة؛ بادر إليها بدرت إليه، وبالله التوفيق...
{و الصلاة الوسطى} [اختلف فيه]، قال بعضهم: قوله: {والصلاة والوسطى} أراد بها كل الصلاة لا صلاة دون صلاة، وهو، والله أعلم، أن الصلاة هي الوسطى، هي من الدين، وهو على ما جاء: الإيمان كذا كذا؛ بصفة أعلاها كذا كذا، وأدناها كذا؛ فعلى ذلك قوله: {والصلاة} هي {الوسطى} من الدين، ليست بأعلاها ولا بأدناها، ولكنها الوسطى من الدين. وقال آخرون: {والصلاة الوسطى} هي صلاة العصر... [لما] روي في الخبر أيضا من قوله صلى الله عليه وسلم: (من فاتنة العصر وتر أهله وماله) [مسلم 262] فإن كانت فجرا [فإن] الكتاب ذكرها بقوله: {وقرآن الفجر أن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78]، ولما قيل: إن ملائك الليل والنهار يشهدونها، فذكرت لها الخصوصية والفضل...
قوله: {والصلاة الوسطى} تكلم فيه بوجهين:
أحدهما: أن الصلاة هي الوسطى من أمر الدين، فهي على أن الأرفع من أمر الدين هو التوحيد والإيمان، وذلك هو الذي لا يرتفع بعذر، ولا يسقط بعذر، ولا يسقط بسقوط المحنة إذ ذلك في الدارين جميعا، وهو الإخلاص، ونفي جميع معاني الخلق به عمن يوحده، ويؤمن به، وسائر العبادات قد تقدم مع وجود أمور الدنيا والدين والمعاش معها، وفي حالها بالذي به قوامها، والتوحيد...
والثاني: أن يراد بذلك التفضيل صلاة من الصلوات في الحث على فعلها والترغيب في المحافظة عليها، ويجيء أن تكون معروفة عند الذين خوطبوا إما بالاسم وإما بالحال من النوازل، لأنه لا يحتمل ان يرغب في فعل لا تعلم حقيقة ذلك، والله أعلم...
وقوله تعالى: {حافظوا} على مخاطبة الجملة على الاشتراك؛ إذ المفاعلة اسم ذلك على تضمن الترغيب في الجماعات أو على لزوم كثرة الصلاة أو على ما خرج الأمر بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة لها، وكل في ذلك، والله أعلم...
وقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}... روي عن زيد بن أرقم أنه قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزل قوله: {وقوموا لله قانتين} أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، وعلى ذلك سمي الدعاء قنوتا. وقال آخرون: {قانتين} مطيعين؛ ولذلك ما قيل: إن أهل الأديان يقومون في صلاتهم خاضعين ساهين، فأمر أهل الإسلام أن يقوموا مطيعين. والقنوت هو القيام على ما روي [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] أنه سئل عن أفضل الصلوات، فقال:
(طول القنوت) [مسلم 756/ 165] وأصل القنوات ما ذكرنا، وهو القيام، غير الذي يقوم الآخر، يقوم على الخضوع والخشوع والسكوت. وليس في الآية أنه أمر بذلك في الصلاة، غير أن أهل التأويل صرفوا إليها ذلك، لأنها ذكرت على إثر ذكر الصلاة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المحافظة على الصلاة أن يدخلها بالهيبة، ويخرج بالتعظيم، ويستديم بدوام الشهود بنعت الأدب، والصلاة الوسطى أيهم ذكرها على البيت لتراعي الجميع اعتقاداً منك لكل واحدة أنها هي لئلا يقع منك تقصير في شيء منها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الخطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها وبجميع شروطها، وذكر تعالى {الصلاة الوسطى} ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله
{الصلوات} لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها، وقرأ أبو جعفر أبو الرؤاسي «والصلاة الوسطى» بالنصب على الإغراء، وقرأ كذلك الحلواني...
وقالت فرقة: {الصلاة الوسطى} لم يعينها الله تعالى لنا، فهي في جملة الخمس غير معينة، كليلة القدر في ليالي العشر، فعَلَ الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع، قاله نافع عن ابن عمر وقاله الربيع بن خثيم...
وقالت فرقة: {الصلاة الوسطى} هي صلاة الجمعة فإنها وسطى فضلى، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيداً، ذكره ابن حبيب ومكي.
وقال بعض العلماء: {الصلاة الوسطى} المكتوبة الخمس، وقوله أولاً {على الصلوات} يعم النفل والفرض، ثم خص الفرض بالذكر، ويجري مع هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى...
وقوله تعالى {وقوموا لله قانتين} معناه في صلاتكم، واختلف الناس في معنى {قانتين}... قال القاضي أبو محمد: وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي الله تعالى، وقال الربيع: القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
لَا شَكَّ فِي انْتِظَامِ قَوْله تَعَالَى "الصَّلَوَاتِ "لِلصَّلَاةِ الْوُسْطَى لَكِنَّهُ خَصَّصَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا فِي جِنْسِهَا وَمِقْدَارِهَا فِي أَخَوَاتِهَا. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ الْمَلَكَيْنِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي مِقْدَارِهِمَا بَيْنَ الْفَاكِهَةِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافُرَ فِيهِ إلَّا الْقِيَامُ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قَائِمِينَ، إلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ...
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه، وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه؛
أحدها: أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى، وزوال التمرد عن الطبع، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه، كما قال: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر}
والثاني: أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال: {استعينوا بالصبر والصلاة} والثالث: أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا، فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى، لما ذكر... جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات، وأحكامهم في النكاح والوطء، والإيلاء والطلاق، والرجعة، والإرضاع والنفقة والكسوة، والعدد والخطبة، والمتعة والصداق والتشطر، وغير ذلك، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت، ويبلغ منه الجهد، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلاَّ لمن وفقه الله تعالى، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده.
وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق، ولذلك جاء: «فدين الله أحق أن يقضى» فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض الله عليكم، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة، حتى في حالة الخوف، فلا بد من أدائها رجالاً وركباناً، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جداً لا بد معها من الصلاة، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء...
وقيل: مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة، أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها، وصوناً لهم عن مخالفتها...
إن قلت: ما وجه مناسبتها مع أن ما قبلها في شأن الزوجات؟ قلنا: الجواب عنه بأمرين: إما بأنّه تنبيه الأزواج أن لا يشتغلوا بأمور زوجاتهم عن الصلوات، وإما بأن بعضهم كان لا يراعي (المناسبة ولا يشتغل) بها.
قال ابن عرفة: إنما قال « حَافِظُوا» ولم يقل: احفظوا، إشارة إلى تأكدها وتكرر الأمر بها من وجهين:
أحدهما: أن « حَافِظُوا» مفاعلة لا تكون إلاّ من اثنين مثل: قاتلت زيدا، ووقوعها هنا من الجانبين مستحيل، فيتعين صرف ذلك إلى تكرر الأمر بوقوعه وتأكده. الثاني: إنّ لفظه يقتضي الاستيلاء والإحاطة فهو إشارة إلى تعميم الإحاطة بالصلوات دون ترك شيء منها وتخصيص الصّلاة الوسطى منها بالذكر: إما لورودها على النّاس في زمن شغلهم أو في زمن راحتهم ونومهم أو لكونهم من بقية الصلوات التي كانت مفروضة على الأمم المتقدمة وهو من عطف الخاص على العام...
{وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ}. فسره ابن عطية بالقيام الحسي حقيقة قال: ومعناه في صلاتهم فسره بعضهم بالقيام المعنوي وهو الجد في الطلب والطاعة فيتناول ركوع الصلوات وسجودها مثل: « قمت بالأمر»...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكرت أحكام النساء وشعبت حتى ضاق فسيح العقل بانتشارها وكاد أن يضيع في متسع مضمارها مع ما هناك من مظنة الميل بالعشق والنفرة بالبغض الحامل على الإحن والشغل بالأولاد وغير ذلك من فتن وبلايا ومحن يضيق عنها نطاق الحصر ويكون بعضها مظنة للتهاون بالصلاة بل وبكل عبادة اقتضى الحال أن يقال: يا رب! إن الإنسان ضعيف وفي بعض ذلك له شاغل عن كل مهم فهل بقي له سعة لعبادتك؟
فقيل: {حافظوا} بصيغة المفاعلة الدالة على غاية العزيمة أي ليسابق بعضكم بعضاً في ذلك ويجوز أن يكون ذلك بالنسبة إلى العبد وربه فيكون المعنى: احفظوا صلاتكم له ليحفظ صلاته عليكم فلا يفعل فيها فعل الناسي فيترك تشريفكم بها، وأخصر منه أن يقال: لما ذكر سبحانه وتعالى ما بين العباد خاصة ذكر ما بينه وبينهم...
قال الحرالي: لما كان ما أنزل له الكتاب إقامة ثلاثة أمور: إقامة أمر الدين الذي هو ما بين العبد وربه، وتمشية حال الدنيا التي هي دار محنة العبد، وإصلاح حال الآخرة والمعاد الذي هو موضع قرار العبد، صار ما يجري ذكره من أحكام تمشية الدنيا غلساً نجوم إنارته أحكام أمر الدين فلذلك مطلع نجوم خطابات الدين أثناء خطابات أمر الدنيا فيكون خطاب الأمر نجماً خلال خطابات الحرام والحلال في أمر الدنيا؛ وإنما كان نجم هذا الخطاب للمحافظة على الصلاة لأن هذا الاشتجار المذكور بين الأزواج فيما يقع من تكره في الأنفس وتشاح في الأموال إنما وقع من تضييع المحافظة على الصلوات لأن الصلاة بركة في الرزق وسلاح على الأعداء وكراهة الشيطان؛ فهي دافعة للأمور التي منها تتضايق الأنفس وتقبل الوسواس ويطرقها الشح، فكان في إفهام نجم هذا الخطاب أثناء هذه الأحكام الأمر بالمحافظة على الصلوات لتجري أمورهم على سداد يغنيهم عن الارتباك في جملة هذه الأحكام... فقال تعالى: {حافظوا}
قال الحرالي:... المحافظة مفاعلة من الحفظ وهو رعاية العمل علماً وهيئة ووقتاً وإقامة بجميع ما يحصل به أصله ويتم به عمله وينتهي إليه كماله، وأشار إلى كمال الاستعداد لذلك بأداة الاستعلاء فقال: {على الصلوات} فجمع وعرف حتى يعم جميع أنواعها، أي افعلوا في حفظها فعل من يناظر آخر فيه فإنه لا مندوحة عنها في حال من الأحوال حتى ولا في حال خوف التلف، فإن في المحافظة عليها كمال صلاح أمور الدنيا والآخرة لا سيما إدرار الأرزاق وإذلال الأعداء {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132] و {استعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 193]. "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة "ولا شك أن اللفظ صالح لدخول صلاة الجنازة فيه، ويزيده وضوحاً اكتناف آيتي الوفاة لهذه الآية سابقاً ولاحقاً.
و قال الحرالي: إن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا على نية الآخرة وأبى أن يعطي الآخرة على نية الدنيا، خلل حال المرء في دنياه ومعاده إنما هو عن خلل حال دينه، وملاك دينه وأساسه إيمانه وصلاته، فمن حافظ على الصلوات أصلح الله حال دنياه وأخراه، وفي المحافظة عليها تجري مقتضيات عملها عملاً إسلامياً وخشوعاً وإخباتاً إيمانياً ورؤية وشهوداً إحسانياً فبذلك تتم المحافظة عليها،
وأول ذلك الطهارة لها باستعمال الطهور على حكم السنة وتتبع معاني الحكمة، كما في مسح الأذنين مع الرأس، لأن من فرق بينهما لم يكد يتم له طهور نفسه بما أبدته الحكمة وأقامته السنة وعمل العلماء فصد عنه عامة الخلق الغفلة؛ ثم التزام التوبة عندها لأن طهور القلب التوبة كما أن طهور البدن والنفس الماء والتراب، فمن صلى على غير تجديد توبة صلى محدثاً بغير طهارة؛
ثم حضور القلب في التوحيد عند الأذان والإقامة، فإن من غفل قلبه عند الأذان والإقامة عن التوحيد نقص من صلاته روحها فلم يكن لها عمود قيام، من حضر قلبه عند الأذان والإقامة حضر قلبه في صلاته، ومن غفل قلبه عندهما غفل قلبه في صلاته؛
ثم هيئتها في تمام ركوعها وسجودها؛ وإنطاق كل ركن عملي بذكر الله يختص به أدنى ما يكون ثلاثاً فليس في الصلاة عمل لا نطق له؛ ولا يقبل الله صلاة من لم يقم صلبه في ركوعه وسجوده وقيامه وجلوسه؛
فبالنقص من تمامها تنقص المحافظة عليها وبتضييع المحافظة عليها يتملك الأعداء النفس ويلحقها الشح فتنتقل عليها الأحكام وتتضاعف عليها مشاق الدنيا، وما من عامل يعمل عملاً في وقت صلاة أو حال أذان إلا كان وبالاً عليه وعلى من ينتفع به من عمله، وكان ما يأخذه من أجر فيه شقى خبث لا يثمر له عمل بر ولا راحة نفس في عاجلته ولا آجلته، وخصوصاً بعد أن أمهل الله الخلق من طلوع شمس يومهم إلى زوالها ست ساعات فلم يكن لدنياهم حق في الست الباقية فكيف إذا طولبوا منها بأويقات الأذان والصلاة وما نقص عمل من صلاة، فبذلك كانت المحافظة على الصلوات ملاكاً لصلاح أحوال الخلق مع أزواجهم في جميع أحوالهم...
{والصلاة الوسطى} أي خصوصاً فإنها أفضل الصلوات لأنها أخصها بهذا النبي الخاتم كما مضى بيانه في أول السورة في قوله: {استعينوا بالصبر والصلاة}
[البقرة: 193] فخصها سبحانه وتعالى بمزيد تأكيد وأخفاها لأداء ذلك إلى المحافظة على الكل ولهذا السبب أخفى ليلة القدر في رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، والاسم الأعظم في جميع الأسماء، ووقت الموت حملاً على التوبة في كل لحظة.
قال الحرالي: وما من جملة إلا ولها زهرة فكان في الصلوات ما هو منها بمنزلة الخيار من الجملة وخيارها وسطاها فلذلك خصص تعالى خيار الصلوات بالذكر، وذكرها بالوصف إبهاماً ليشمل الوسطى الخاصة بهذه الأمة وهي العصر التي لم تصح لغيرها من الأمم، ولينتظم الوسطى العامة لجميع الأمم ولهذه الأمة التي هي الصبح، ولذلك اتسع لموضع أخذها بالوصف مجال العلماء فيها ثم تعدت أنظارهم إلى جميعها لموقع الإبهام في ذكرها حتى تتأكد المحافظة في الجميع بوجه ما، وفي قراءة عائشة رضي الله تعالى عنها: وصلاة العصر -عطفا ما يشعر بظاهر العطف باختصاص الوسطى بالصبح على ما رآه بعض العلماء، وفيه مساغ لمرجعه على {الصلاة الوسطى} بنفسها ليكون عطف أوصاف، وتكون تسميتها بالعصر مدحة ووصفاً من حيث إن العصر خلاصة الزمان كما أن عصارات الأشياء خلاصاتها ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} [يوسف: 49] فعصر اليوم هو خلاصة لسلامته من وهج الهاجرة وغسق الليل، ولتوسط الأحوال والأبدان والأنفس بين حاجتي الغداء والعشاء التي هي مشغلتهم بحاجة الغذاء؛ ومن إفصاح العرب عطف الأوصاف المتكاملة فيقال: فلان كريم وشجاع- إذا تم فيه الوصفان، فإذا نقصا عن التمام قيل: كريم شجاع -بالاتباع، فبذلك يقبل معنى هذه القراءة أن تكون الوسطى هي العصر عطفاً لوصفين ثابتين لأمر واحد... ويوضح ما قاله رحمه الله تعالى قولهم في الرمان المز: حلو حامض- من غير عطف، وبرهانه أنهم قالوا: إن الجمل إذا تتابعت من غير عطف كان ذلك مؤذناً بتمام الاتصال بينها فتكون الثانية إما علة للأولى وإما مستأنفة على تقدير سؤال سائل ونحو ذلك مما قاله البيانيون في باب الفصل والوصل، ولولا إشعار الكلام الأول بالجملة الثانية لاحتياجه إليها لم يوجد محرك للسؤال بخلاف ما إذا تعاطفت كان ذلك يؤذن بأن كل واحدة منها غنية عما بعدها وذلك مؤذن بالتمام: وأما أسماء الله تعالى فتتابعها دون عطف، لأن شيئاً منها لا يؤدي جميع مفهوم اسم الذات العلم ولذلك ختم سبحانه وتعالى آيات سورة الحشر بقوله: {له الأسماء الحسنى} [الحشر: 24] أي أن هذه الأسماء التي ذكرت هي مما أفهمه مدلول الاسم العلم المبتدأ به سواء قلنا إنه مشتق أو لا، ومهما اطلعت على وصف حسن يليق به سبحانه وتعالى فهو مما دل عليه الاسم الأعظم، لأن من يستحق العبادة لا يكون إلا كذلك جامعاً لأوصاف الكمال، أو لأنه لما جبلت النفوس وطبعت القلوب على المعرفة بأنه سبحانه وتعالى منزه عن شوائب النقص ومتصف بأوصاف الكمال كان الإعراء من العطف فيها للإيذان بذلك وما عطف منها فلمعنى دعا إليه... وأنا لا أشك أن المعطل إذا وقع في ضيق أخرجه ودهمه من البلاء ما أعجزه وأحرق قلبه وأجرى دمعه التفت قلبه ضرورة إلى الله سبحانه وتعالى في كشفه وضرع إليه في إزالته لما ركز في جبلته من كماله وعظمته وجلاله ذاهلاً عما تكسبه من قُرناه السوء من سوء الاعتقاد وجر نفسه إليه من العناد -والله سبحانه وتعالى أعلم؛ فدونك قاعدة نفيسة طال ما تطلبتها وسألت عنها الفضلاء فما وجدتها وضربت بفكري في رياض الفنون ومهامه العلوم حتى تصورتها ثم بعد فراغي من تفسيري رأيت الكشاف أشار إليها في آية {والمستغفرين بالأسحار} في آل عمران- والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما أمر بالمحافظة عليها أتبعه جامع ذلك فقال: {وقوموا لله} أي الذي له الجلال والإكرام {قانتين} أي مطيعين -قاله الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وعطاء وقتادة وطاوس. وروى الطبراني في الأوسط والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل حرف ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة" وقيل: القنوت السكوت، ففي الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في حاجته حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" وقال مجاهد: خاشعين، وقيل غير ذلك؛ وإذا علم أصل معنى هذه الكلمة لغة علم أن المراد: مخلصين، وإليه يرجع جميع ما قالوه، وذلك أن مادة قنت بأي ترتيب كانت تدور على الضمور من القتين للقليل اللحم والطعم، وقتن المسك إذا يبس، فيلزمه الاجتذاب والخلوص، فإنه لولا تجاذب الأجزاء لزوال ما بينها من المانع لم يضمر، ومنه امرأة ناتق إذا كانت ولوداً كأنها تجتذب المني كله فتظفر بما يكون منه الولد، أو أنه لما كان المقصود الأعظم من الجماع الولد كانت كأنها المختصة بجذب المني وكأن اجتذاب غيرها عدم، أو كأنها تجتذب الولد من رحمها فتخرجه، وذلك من نتق السقاء وهو نفضه، حتى يقتلع ما فيه فيخلص، ومن ذلك: البيت المعمور نتاق الكعبة، أي مطل عليها من فوق فلو أنه جاذب شيئاً من الأرض لكان إياها لأنه تجاهها، ومن الضمور: التقن- لرسابة الماء؛ وهو الكدر الذي يبقى في الحوض فإنه متهيئ لاجتذاب العكولة؛ ويلزم الضمور الإحكام لجودة التراص في الأجزاء لخلوصها عن مانع، ومنه: أمر متقن، أي محكم، و: رجل تقن -إذا كان حاذقاً بالأشياء، فهو خالص الرأي؛ ويلزمه الإخلاص والخشوع والتواضع فتأتي الطاعة بالدعاء وغيره فإنها جمع الهم على المطاع {أمَّن هو قانت آناء الليل} [الزمر: 9] ونحو ذلك، والتقن أيضاً الطبيعة فإنها سر الشيء وخالصه، ومنه الفصاحة من: تقن فلان، أي طبعه؛ ويلزم الضمور القيام فإنه ضمور بالنسبة إلى بقية الهيئات؛ ومنه: أفضل الصلاة طول القنوت. والسكوت ضمور بالنسبة إلى الكلام؛ ويلزم الضمور اليبس والذبول ومنه التقن للطين الذي يذهب عنه الماء فييبس ويتشقق؛ والقلة ومنه: قراد قتين، أي قليل الدم، فيأتي أيضاً السكوت والإحكام؛ وإذا راجعت معاني هذه المادة وهي قنت وقتن وتقن ونتق من كتب اللغة ازددت بصيرة في هذا، وإذا علم ذلك علم أن الآية منطبقة على الحديث محتملة لجميع أقوال العلماء رضي الله تعالى عنهم، وذلك أن الصلاة إذا أخلصت لم يكن فيها قول ولا فعل ليس منها وذلك محض الطاعة والخشوع. وقال الحرالي: القنوت الثبات على أمر الخير وفعله، وذلك أن فعل الخير والبر يسير على الأكثر ولكن الثبات والدوام عسير عليهم، وكان من القنوت مداومة الحق فيما جاء به في الصلاة حتى لا يقع التفات للخلق، فلذلك لزم الصمت عن الخلق من معناه، لأن كلام الناس قطع لدوام المناجاة، ففي إشعاره أن من قام لله سبحانه وتعالى قانتاً في صلاته أقام الله سبحانه وتعالى في دنياه حاله في إقامته ومع أهله، كما يشير إليه معنى آية {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك} [طه: 32] ففيه إيذان بأن الصلاة تصلح الحال مع الأهل وتستدر البركة في الرزق...
وحديث زيد هذا صريح في أن الصلاة في أول الأمر لم تكن على الحدود التي صارت إليها آخراً؛ فيحتمل أن الفعل كان مباحاً فيها كما كان الكلام، ويؤيده أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي نص بالمنع، وبهذا يزول ما في حديث ذي اليدين من الإشكال من أنه يقتضي إباحة القول والفعل للمصلي إذا ظن أنه أكمل الصلاة أو نسي أنه فيها، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فسلم من ركعتين ثم قام إلى خشبة في ناحية المسجد فاتكأ عليها وخرج سرعان الناس، فلما أعلمه ذو اليدين بالحال سأل الناس فصدقوه، فرجع فأكمل الصلاة" فإن الحديث غير مؤرخ فيحتمل أنه كان قبل تحريم الأفعال والأقوال بهذه الآية. ويؤيد احتمال إباحة الأفعال أولاً اتباع الآية بقوله تعالى: {فإن خفتم}
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كانت الآيات السابقة أحكاما بعضها في العبادات، وبعضها في الحدود والمعاملات، آخرها معاملة الأزواج، ورأينا من سنة القرآن أن يختم كل حكم أو عدة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه، والتذكير بعلمه بحال العبد وبما أعد له من الجزاء على عمله، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال وإشرابها حقيقة الإخلاص. ولكن هنا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها، قد يغفل المرء عن تدبره، ويغيب عن الذهن تذكره، بانهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا، أو ما يلذ لهم من نعيمها، ولهذه الضروب من المكافحات، والفنون من تمتع باللذات، سلطان قاهر على النفس، وحاكم مسخر للعقل والحس، يتنكب بالمرء سبيل الهدى، حتى تتفرق به سبل الهوى، فمن ثم كان المكلف محتاجا في تأديب الشهوات الحيوانية، إلى مذكر يذكره بمكانته الروحانية، التي هي كمال حقيقته الإنسانية، وهذا المذكر هو الصلاة فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لابد له منها، وتوجيهه إلى ربه جل وعلا، فتكثر له مراقبته، حتى تعلو بذلك همته، وتزكو نفسه، فتترفع عن البغي والعدوان، وتتنزه عن دناءة الفسق والعصيان، ويحبب إليها العدل والإحسان، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الامتنان فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود، وزيادة ما يحب الله تعالى من الكرم والجود، ذلك أن الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثرات وأكبر، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلي المصلين، إذا كانوا على الصلاة الحقيقية محافظين. لهذا قال: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} قال الأستاذ الإمام: قال حافظوا على الصلوات ولم يقل احفظوها، لأن المفاعلة تدل على المنازعة والمقاومة، ولا يظهر قول بعضهم إن المفاعلة للمشاركة لأن الصلاة تحفظه كما يحفظها، إلا لو كانت العبارة حافظوا الصلوات، ولكنه قال على الصلوات، أي اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها... [و] لا يريد الأستاذ بهذا أن الصلاة لا تحفظ مما ذكر، وإنما يريد أن لفظ حافظوا لا يدل على هذا المعنى الثابت في نفسه. والذي أفهمه في المفاعلة على الشيء هو فعله المرة بعد المرة ومنه حافظ عليه وواظب عليه وداوم عليه، إلا إذا كانت "على "للتعليل كقاتله على الأمر، أي لأجله، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصح هنا. وحفظ الصلاة المرة بعد المرة على الاستمرار عبارة عن الإتيان بها كل مرة كاملة الشرائط والأركان العملية، كاملة الآداب والمعاني القلبية، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائما هو الذي لا يلحقه النقص وإلا لم يكن محفوظا دائما. قال الأستاذ الإمام: وهو من قبيل التماس النكتة، ومن آيات أخرى كقوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} (الروم: 17-18)... وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح، يقولون سبح الغداة مثلا. أي صلى الفجر. قال الأستاذ الإمام: ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله: {والصلاة الوسطى} أن المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى وتخشع لذكره وتدبر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين. ويقوي هذا قوله بعدها {وقوموا لله قانتين} فهو بيان لمعنى الفضل في الفضلى وتأكيد له، إذ قالوا أن في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع، أي قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى واستشعار هيبته وعظمته، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقة ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها إلا بهذا، وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة، وخشوعه لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذا الجو الذي يربط القلوب بالله، ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله، يدس حديثا عن الصلاة -أكبر عبادات الإسلام- ولم ينته بعد من هذه الأحكام. وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة -يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو، فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة، ومن جنسها، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن. وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر، بل شاملة لكل نشاط، الاتجاه فيه إلى الله، والغاية منه طاعة الله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا. فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعل آية {حافظوا على الصلوات} نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد. وإذا أبيت [إلا أن] تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية: ابتداء من قوله: {يسألونك ماذا ينفقون} [البقرة: 215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة: 237] فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين،
أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.
[و] الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.
ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر،
قال البيضاوي: « أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها». وقال بعضهم: « لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله» وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 239] أي من قوانين المعاملات النظامية. وعلى هذين الوجهين الآخرين تكون جملة
{حافظوا على الصلوات} معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] بين جملة {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي} [البقرة: 40]. وبين جملة {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة: 122] وكموقع جملة
{يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153] بين جملة {فلا تخشوهم واخشوني} [البقرة: 150] الآية وبين جملة: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات} [البقرة: 154] الآية...
{والصلاة الوسطى} لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف وموصوفة بأنها وسطى، فسمعها المسلمون وقرأوها، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع، فلما تذاكروها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولاً، بالتفريق والجمع، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى، أو من الوصاية بالمحافظة عليها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
توسطت الآيات التي تبين أحكام الأسرة، وعلاقات الزوجين عند الافتراق بالطلاق، أو عند التفريق بينهما بالموت – آيتان كريمتان تدعوان إلى الصلاة والمحافظة عليها، والإتيان بها على وجهها الكامل: من قنوت لله، وخضوع له، وخشوع وابتهال وضراعة، ولذلك التوسط مغزاه ومرماه، ذلك بأن الله سبحانه وتعالى دعا إلى العفو والتسامح، وعدم نسيان الفضل عند الافتراق، ومنع المشاحنة والمنازعة حيث تتوقعان، ولقد بين سبحانه بعد ذلك ما يربي في النفس نزوع التسامح، والبعد عن التجافي، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى، والإحساس بالخضوع له والانصراف إليه، ومحبته وطلب رضاه، فإن من يحب الله ورضوانه يحب الناس ولا ينازعهم؛ لأن الله سبحانه رب الناس وخالق الناس، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء، والمحبة في الله والبغض في الله ركن الإيمان، ولا يكون ذلك كله إلا بالقيام بالصلاة وأدائها على وجهها، ولذا قال تعالى: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر...45} (العنكبوت).
وإن أداء الصلاة على وجهها والقيام بحقها ليس أمرا صغيرا، بل إنه أمر كبير خطير، له نتائجه العليا في الاتجاه بالنفس الإنسانية نحو السمو والتعالي عن متنازع الأهواء في هذه الحياة، ولذلك قال تعالى في الاستعانة على التغلب على الأهواء في حياتنا الدنيا: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 45}
و قد يقول قائل: أفما كان الأولى أن تذكر آيات الصلاة بعد بيان أحكام الأسرة كلها؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن الحق الذي لا ريب فيه هو فيما سلكه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كتاب الله ليس مؤلفا ينهج مناهج التأليف من حيث التبويب والتقسيم، بل إن كتاب الله تعالى كتاب عظة واعتبار، وبيان شرع، وإرشاد، ولترتيب منهاجه وحده، ولا يضارعه كتاب فيه، فهو يتتبع في ترتيبه تداعي المعاني في النفس، وتواردها على الفكر، ويأتي بالحكم حيث تتطلع النفوس إليه، فيملأها ببيانه الرائع، وحكمه الخالد. و لاشك أن العقل البشري يتطلع ويستفهم كيف يمكن تذكر الفضل في وقت تلك الفرقة التي في أغلب أحوالها تكون نتيجة للبغض الشديد، وكيف يكون التسامح والعفو في موطن تحكم البغض، فأجاب الله سبحانه داعية العقل، وتطلع الفكر، بأن الصلاة على وجهها حيث يخاطب العبد ربه، وينصرف إليه خاشعا ضارعا محسا بعظمته وتجليه، ومتجها إليه سبحانه في علو سلطانه، إن ذلك كله هو الذي يعلو بالنفس عن شهواتها، و يصعد بها في سموها، تعالت كلمات الله العلي القدير، وتسامت حكمة العليم الخبير...
فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق يقول:
{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين 238}
ثم يعود إلى الأسرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول:
{والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم 240} (سورة البقرة).
إذن فالحق سبحانه وتعالى فصل بآية: (حافظوا على الصلوات..) بين قضية واحدة هي قضية الفراق بين الزوجين وقسّمها قسمين، وأدخل بينهما الحديث عن الصلاة، وذلك لينبهنا إلى وحدة التكاليف الإيمانية، ونظرا لأن الحق يتكلم هن عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري بالطلاق، وإما افتراق قدري بالوفاة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل الإنسان في العملية التعبّدية التي تصله بالله الذي شرّع الطلاق والصلاة وقدّر الوفاة.
ولماذا اختار الله الصلاة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلام عن تشريع الطلاق والفراق؟ لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الاطمئنان، إن كانت أمور الزواج والطلاق حزبتهم وأهمتهم في شقاق الاختيار في الطلاقات التي وقعت أو عناء الافتراق بالوفاة. ولن يربط على قلوبهم إلا أن يقوموا لربهم ليؤدوا الصلاة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يفعل ذلك، كان إذا ما حزبه أمر قام إلى الصلاة.
إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلاق والفراق؛ ليسأله أن يخفف عنه الهم والحزن. ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري الأقدار فله أن يعرف أن الله الذي أجرى تلك الأقدار عليه لم يتركها بلا أحكام، بل وضع لكل أمر حكما مناسبا، وما على المؤمن إلا أن يأخذ الأمور القدرية برضا ثم يذهب إلى الله قانتا وخاشعا ومصليا. لأن المسألة مسألة الطلاق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري.
ويأتي قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فنفهم أن المقصود في الآية هي الصلوات الخمس.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ونستفيد من ذلك قيمة صلاة الجماعة في الإسلام وأثرها في حياة المسلمين؛ فإنَّ الإسلام يعطي أهمية للجانب الاجتماعي في الواقع الإسلامي، ليتشاوروا بينهم في كلّ أمورهم، وليتعاونوا على البر والتقوى، وليتحرّكوا في خطّ الجهاد في سبيل اللّه؛ فذلك ما يمنحهم صفة «المجتمع الإسلامي» في مرحلةٍ، و«الأمّة الإسلامية» في مرحلةٍ أخرى. وقد تكون صلاة الجماعة من أقوى المناسبات التي تحقّق هذا الهدف، وتؤكد هذا العنوان، وتقوّي هذه الروح؛ لأنها تجسد الاجتماع بين المسلمين أمام اللّه في الأجواء الروحية، التي توحي بها الصلاة التي أراد اللّه لها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن تكون معراج المؤمن بروحه إلى اللّه؛ وبذلك يتحسس المسلمون الجانب الاجتماعي في دينهم من خلال اللّه في مضمون صلاتهم، كما يتمثّلون في نظام الإمامة في الصلاة والمأمومين فيها معنى القيادة التي لا بُدَّ للمسلمين في أن يطيعوها، فيتحرّكون عندما تتحرّك ويقفون عندما تقف، كما تتمثّل القيادة معنى أتباعها لتحفظ لهم أوضاعهم، فلا يطيل الإمام صلاته رحمة بالمأمومين.
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الْوُسْطَى} إنَّ في الآية دعوة إلى المحافظة على الصلاة بشكل عام، وذلك بالقيام بأدائها في أوقاتها.
وأكد اللّه على {الصَّلاةِ الْوُسْطَى} للدلالة على أهميتها في حساب القرب إلى اللّه والدخول في رحمته.