التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

ثم نزه الله - تعالى - أنبياءه - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم ، عقب تنزيهه - لذاته عما يقوله المفترون فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ . . . . } .

قال ابن كثير : " عن ابن عباس قال : " قال أبو رافع القرظى حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل نصرانى من أهل نجران يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ - أو كما قال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك أمرنى ولا بذلك بعثنى " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فى ذلك قوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .

فقوله - تعالى - { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله والمعنى : لا يصح ولا ينبغى ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه الله - تعالى - وأعطاه { الكتاب } الناطق بالحق ، الآمر بالتوحيد ، الناهى عن الإشراك ، وآتاه { الحكم } أى العلم النافع والعمل به . وآتاه { النبوة } أى الرسالة التى يبلغها عنه - سبحانه - إلى الناس ، ليدعوهم إلى عبادته وحده ، وإلى مكارم الأخلاق ، لا يصح له ولا ينبغى بعد كل هذه النعم أن يكفرها { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } بعد هذا العطاء العظيم الذى وهبه الله له { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } أى : لا ينبغى ولا يعقل من بشر آتاه الله كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله ، وإخلاصهم له ، عن أن يقولوا هذا القول المنكر ، كما يحجزهم عنه - أيضا - ما امتازوا به من نفوس طاهرة ، وقلوب نقية ، وعقول سليمة . . . لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر فهو - سبحانه - القائل : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والتعبير بقوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } تعبير قرآنى بليغ ، إذ يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } و{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه من نعم ، وبين هذا القول المنكر الذى نفاه - سبحانه - عنهم ، وهو أن يقولوا للناس : اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها لله - تعالى - .

ثم بين - سبحانه - ما يصح للأنبياء أن يقولوه للناس فقال - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .

وقوله { رَبَّانِيِّينَ } جمع ربانى نسبة إلى الرب - عز وجل - بزيادة الألف والنون سماعا للمبالغة كما يقال فى غليظ الرقبة رقبانى وللعظيم اللحية : لحيانى .

والمراد بالربانى : الإنسان الذى أخلص لله - تعالى - فى عبادته ، وراقبه فى كل أقواله وأفعاله ، واتقاه حق التقوى ، وجمع بين العلم النافع والعمل به ، وقضى حياته فى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم .

والمعنى : لا يصح لبشر آتاه الله ما آتاه من النعم أن يقول للناس اعبدونى من دون الله ، ولكن الذى يعقل أن يصدر منه هو أن يقول لهم : كونوا { رَبَّانِيِّينَ } أى منقلبين على طاعة الله - تعالى - وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص ، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذى أنزله الله لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له ، أى قارئين له بتمهل وتدبر .

وقوله - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } استدراك قصد به إثبات ما ينبغى للرسل أن يقولوه . بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغى لهم أن ينطقوا به ، أى : لا ينبغى لبشر آتاه الله نعماً لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لى من دون الله ، ولكن الذى ينبغى له أن يقوله لهم هو قوله : كونوا ربانيين أى مخلصين له - سبحانه - العبادة إخلاصا تاما .

ففى الجملة الكريمة إضمار ، والتقدير : " ولكن يقول لهم كونوا ربانيين " فأضمر القول على حسب مذهب العرب فى جواز الإضمار إذا كان فى الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله - تعالى - { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } أى فيقال لهم : أكفرتم ، والباء فى قوله { بِمَا كُنْتُمْ } للسببية . وما مصدرية أى بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له .

وقرأ أبو عمروا وابن كثير ونافع " تعلمون " بإسكان العين وفتح اللام - من العلم أى بسبب كونكم عالمين بالكتاب ودارسين له .

قال الرازى : دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

اعتراض واستطراد : فإنه لما ذكر لَيّ اليهودِ ألسنتَهم بالتوراة ، وهو ضرب من التحريف ، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ تقَوّل النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام ، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك ، ردّاً على النصارى ، فيكون رجوعاً إلى الغرض الذي في قوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء إلى قوله بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] .

وفي « الكشاف » قيل نزلت لأنّ رجلاً قال : يا رسول الله نُسلمُ عليك كما يُسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك . قال : " لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيئكم واعرِفوا الحق لأهله " قلت : أخرجه عبد بن حميد عن الحسن ، فعلى تقدير كونه حديثاً مقبولاً فمناسبة ذكر هذه الآية أنها قص منها الردّ على جميع هذه المعتقدات . ووقع في أسباب النزول للواحدي مِن رواية الكلبي ، عن ابن عباس : أنّ أبا رافع اليهودي والسيدَ مِن نصارى نجران قالا يا محمد : « أتريد أن نعبدك » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " معاذ الله أن يُعبد غير الله " ونزلت هذه الآية .

وقوله : { ما كان لبشر } نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق . وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فُلان فاعلاً كذا ، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس ، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف ، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل ، ويقال أيضاً : ليس له أن يفعل ، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } [ طه : 118 ] .

فمعنى الآية : ليس قولُ { كونوا عباداً لي } حقاً لبشر أيِّ بشر كان . وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو { وما كان الله ليعذّبهم } [ الأنفال : 33 ] ، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي ، بحيث ينفي أن يكون وجود المسند إليه مجعولاً لأجل فِعْل كذا ، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحوداً .

والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة ، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي } أي ما كان له أن يقول كونوا عباداً لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ .

والعباد جمع عبد كالعبيد ، وقال ابن عطية : « الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير ، والعبيد يقصد منه ، ولذلك قال تعالى : « يا عبادي » وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد ، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد ، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم : هم عبيد العَصا ، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] ؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية » . اهـ .

وقوله : { من دون الله } قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباداً للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّاً لهم ، وجعلوه ابناً للَّه ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيدُ عيسى ، فلذلك جعلت مقالتُهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عباداً له دون الله ، والمعنى أنّ لآمِر بأن يكون الناس عباداً له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله . { ولكن كونوا ربانيين } أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ ، وهو الله تعالى ، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يَكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه .

ومعنى ذلك أن يَكونوا مخلصين لله دون غيره .

والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللِّحياني لعظيم اللحية ، والشَّعراني لكثير الشعرَ .

وقوله : { بما كنتم تعلمون الكتاب } أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة ، فإنّ فائدة العلم العمل .

وقرأ الجمهور : بما كنتم تعلمون بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع عَلِم . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : بضم ففتح فلاممٍ مشدّدة مكسورة مضارع عَلَّم المضاعف .

{ وتدرسون } معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير : لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يُعمل في أمثاله ، فمنه قولهم : دَرَسَت الريحُ رسمَ الدار إذا عفته وأبلته ، فهو دارس ، يقال منزل دارس ، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين . وثوْب دارس خَلَقٌ ، وقالوا : دَرَس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه ، أو للتدبّر ، وفي الحديث : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة إلخ " رواه الترمذي فعطَفَ التدارس على القراءة فعُلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة . وسموا بيت قراءة اليهود مِدْرَاساً كما في الحديث : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ . ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازاً في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية { وبما كنتم تدرسون } على { بما كنتم تعلمون الكتاب } .

وفعله من باب نصر ، ومصدره في غالب معانيه الدرس ، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل دَرْساً ومنه سمي تعليم العِلم درساً .

ويجيء على وزن الفِعالة دِراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل ، مثل الكتابة والقراءة ، إلحاقاً لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة .