واستمع معى إلى هذه الآيات التي قصت علينا ما حدث منهم بأسلوبها البليغ فقالت : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ . . . } .
قوله تعالى : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } بيان لما صنعه بنو إسرائيل بعد فراق موسى - عليه السلام - لهم ، وذهابه لتلقى التوراة عن ربه . مستخلفا عليهم أخاه هارون .
والحلى - بضم الحاء والتشديد - جمع حلى - بفتح فسكون - كثدى وثدى - وهى اسم لما يتزين به من الذهب والفضة ، وهذه الحلى كان نساء بنى إسرائيل - قبيل خروجهن من مصر - قد استعرنها من نساء المصريين ، فلما أغرق الله - تعالى - فرعون وقومه ، بقيت تلك الحلى في أيديهن ، فجمعها السامرى بحجة أنها لا تحل لهن ، وصاغ منها عجلا جسدا له خوار ، وأوهمهم بأن هذا إلههم وإله موسى فعبدوه من دون الله .
قال الحافظ ابن كثير : ( وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار ، أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ، على قولين والله أعلم .
والمعنى : واتخذ قوم موسى من بعد فراقه لهم لأخذ التوراة عن ربه عجلا جسدا له صوت البقر ليكون معبودا لهم .
وقوله { عِجْلاً } مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل ، وقيل إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثانى محذوف أى : إلها .
و { جَسَداً } بدل من { عِجْلاً } أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا .
قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت لم قيل : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً } والمتخذ هو السامرى ؟ قلت فيه وجهان :
أحدهما : أن ينسب الفعل إليهم لأن رجلا منهم باشره ووجد بين ظهرانيهم ، كما يقال بنو تميم قالوا كذا ، وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد . ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به فكأنهم أجمعوا عليه .
والثانى : أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه . فإن قلت لم قال من حليهم ولم تكن الحلى لهم إنما كانت عارية في ايديهم ؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسه وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } اه .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } تقريع لهم على جهالاتهم . وبيان لفقدان عقولهم ، والمعنى : أبلغ عمى البصيرة بهؤلاء القوم ، أنهم لم يفطنوا حين عبدوا العجل ، أنه لا يقدر عليه أحاد البشر ، من الكلام والارشاد إلى أى طريق من طرق الإفادة ، وليس ذلك من صفات ربهم الذي له العبادة ، لأن من صفاته - تعالى - أنه يكلم أنبياءه ورسله ، ويرشد خلقه إلى طريق الخير ، وينهاهم عن طرق الشر ! ! .
ثم أكد - سبحانه - ذمهم بقوله { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } أى : اتخذوا العجل معبودا لهم وهم يشاهدونه لا يكلمهم بأى كلام ، ولا يرشدهم إلى أى طريق ، ولا شك أنهم بهذا الاتخاذ كانوا ظالمين لأنفسهم بعبادتهم غير الله ، وبوضعهم الأمور في غيرها مواضعها .
وفى التعبير عن ظلمهم بلفظ ( كانوا ) المفيد للدوام والاستمرار ، إشعار بأن هذا الظلم دأبهم وعادتهم قبل هذا الاتخاذ وأن ما صدر عنهم ليس بدعا منهم ولا أول مناكيرهم ، فقد سبق لهم أن قالوا لنبيهم بمجرد أن أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم { ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }
عطف على جملة : { وواعدنا موسى } [ الأعراف : 142 ] عطَف قصة على قصة ، فذكر فيما تقدم قصة المناجاة ، وما حصل فيها من الآيات والعبر ، وذكر في هذه الآية ما كان من قوم موسى ، في مدة مغيبه في المناجاة ، من الإشراك .
فقوله : { من بعده } أي من بعد مغيبه ، كما هو معلوم من قوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] ومن قوله : { وقال موسى لأخيه هارون اخلفْني في قومي } [ الأعراف : 142 ] .
وحَذْفُ المضاف مع « بَعْد » المضافةِ إلى اسم المتحّدث عنه شائع في كلام العرب ، كما تقدم في نظيرها من سورة البقرة .
و ( مِن ) في مثله للابتداء ، وهو أصل معاني ( مِن ) وأما ( مِن ) في قوله : { من حليَّهم } فهي للتبعيض .
والحُليّ بضم الحاء وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية ، جمع حَلْي ، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف التحتية ، ووزن هذا الجمع فُعول كما جمع ثدْي ، ويجمع أيضاً على حِلي ، بكسر الحاء مع اللام ، مثل عِصي وقِسي اتباعاً لحركة العين ، وبالأول قرأ جمهور العشرة ، وبالثاني حمزة ، والكسائي ، وقرأ يعقوب حَلْيهم بفتح الحاء وسكون اللام على صيغة الإفراد ، أي اتخذوا من مصوغهم وفي التوراة أنهم اتخذوه من ذهب ، نزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائِهم وبناتهم وبنيهم .
والعجل ولد البقرة قبل أن يصير ثَوْراً ، وذكر في سورة طه أن صانع العجل رجل يقال له السامري ، وفي التوراة أن صانعه هو هارون ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه الواقع في التوراة بعد موسى ، ولم يكن هارون صائِغاً ، ونسب الاتخاذ إلى قوم موسى كلهم على طريقة المجاز العقلي ، لأنهم الآمرون باتخاذه والحريصون عليه ، وهذا مجاز شائِع في كلام العرب .
ومعنى اتخذوا عِجلاً صورة عِجْل ، وهذا من مجاز الصورة ، وهو شائِع في الكلام .
والجسد الجسم الذي لا روح فيه ، فهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح ، والمراد أنه كجسم العجل في الصورة والمقدار إلاّ أنه ليس بحي وما وَقع في القصص : إنه كان لحماً ودماً ويأكل ويشرب ، فهو من وضع القصاصين ، وكيف والقرآننِ يقول : { من حُليهم } ، ويقول : { له خوار } ، فلو كان لحماً ودماً لكان ذكره أدخل في التعجيب منه .
والخُوار بالخاء المعجمة صوت البقر ، وقد جعل صانع العجل في باطنه تجْويفاً على تقدير من الضيق مخصوص ، واتخذ له آلة نافخة خفية ، فإذا حركت آلة النفخ انضغط الهواء في باطنه ، وخرج من المضيق ، فكان له صوت كالخوار ، وهذه صنعة كصنعة الصفارة والمزمار ، وكان الكنعانيون يجعلون مثل ذلك لصنعهما المسمى بعْلاً .
و { جسداً } نعت ل { عجلاً } وكذلك { له خوار } .
وجملة : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ؛ لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم .
والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم ، ولذلك جعل الاستفهام عن نفي الرؤية ، لأن نفي الرؤية هو غير الواقع من حالهم في نفس الأمر ، ولكن حالهم يشبه حال من لا يرون عدم تكليمه ، فوقع الاستفهام عنه لعلهم لم يروا ذلك ، مبالغة ، وهو للتعجيب وليس للإنكار ، إذ لا ينكر ما ليس بموجود ، وبهذا يعلم أن معنى كونه في هذا المقام بمنزلة النفي للنفي إنما نشأ من تنزيل المسؤول عنهم منزلة من لا يرى ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ) .
والرؤية بصرية ، لأن عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم ، لأن عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم ، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام ، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب .
وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلاهاً ، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلاهاً بأن خصائصه خصائص العجماوات ، فجسمه جسم عجل ، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة ، وصوته صوت البقر ، وهو صوت لا يفيد سامعه ، ولا يبين خطاباً ، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه ، فهو من الموجودات المنحطة عنهم ، وهذا كقول إبراهيم { فاسْألوهم إن كانوا ينطقون } [ الأنبياء : 63 ] فماذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية ، فضلاً على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق ، والذين عبدوه أشرف منه حالاً وأهدى ، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية ، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر .
وجملة : { اتخذوه } مؤكدة لجملة { واتخذ قوم موسى } فلذلك فصلت ، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب ، كما يقال : نَعمْ اتخذوه ، ولتبنى عليه جملة { وكانوا ظالمين } فيظهرَ أنها متعلقة باتخاذ العجل ، وذلك لبعد جملة : { واتخذ قوم موسى } بما وليها من الجملة وهذا كقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } إلى قوله { فليكتب } [ البقرة : 282 ] أعيد فليكتب لتُبنى عليه جملة : { وليُملل الذي عليه الحق } [ البقرة : 282 ] ، وهذا التكرير يفيد معَ ذلك التوكيدَ وما يترتب على التوكيد .
وجملة : { وكانوا ظالمين } في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله : { اتخذوه } وهذا كقوله في سورة البقرة ( 51 ) { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.