التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب ، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، التي تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإِسلام ، وقد بدئت هذه الآيات بقوله - تعالى - { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . . . } .

قال الإِمام الرازى : اعلم أنه لما ذكر - سبحانه - حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفى إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفى وجوب مقاتلتهم ، وفى تبعيدهم عن المسجد الحرام . . ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد .

وقال ابن كثير ما ملخصه : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى . وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا " تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة . ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ حر . وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس . . . " .

وقوله : { قَاتِلُواْ الذين } أمر منه - سبحانه - للمؤمنين بقتال أهل الكتاب ، وبيان للأسباب التي اقتضت هذا الأمر ، وهى أنهم :

أولاً : { لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيماناً صحيحاً ، لاتبعوا رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن منهم من قال : { عُزَيْرٌ ابن الله } ومنهم من قال : { المسيح ابن الله } وقولهم هذا كفر صريح ، لأنه - سبحانه - منزله عما يقولون .

قال - تعالى - { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وثانياً : أنهم " لا يؤمنون باليوم الآخر " على الوجه الذي أمر الله - تعالى - به ، ومن كان كذلك كان إيمانه . على فرض وجوده . كلا إيمان .

قال الجمل ما ملخصه : فإن قلت : اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف نفى الله عنهم ذلك ؟

قلت : إن إيمانهم بهما باطل لا يفيد ، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم فصح نفيه في الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه ، والنصارى يعتقدون الحلول ، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك .

وأيضاً فإن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك لأنهم يعقتدون بعث الأرواح دون الأجساد ، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون - أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك .

ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن .

وثالثاً : أنهم { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أى : لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة ، وفضلاً عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته شريعتهم على ألسنة رسلهم ، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم . أى أنهم لا يحرمون ما حرمه الله لا في شريعتنا ولا في شريعتهم .

فاليهود - بجانب كفرهم بشريعتنا - لم يطيعوا شريعتهم ، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل مع أنها . أى شريعتهم . نهتهم عن ذلك .

قال - تعالى - { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل . . . } والنصارى - بجانب كفرهم - أيضاً - بشريعتنا - لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن شريعتهم لم تشرع لهم ذلك .

قال - تعالى - { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } ورابعاً : { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } وقوله : { يَدِينُونَ } بمعنى يعتقدون ويطيعون . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه .

والمراد بدين الحق : دين الإِسلام الناسخ لغيره من الأديان .

أى : أنهم لا يتخذون دين الإِسلام ديناً لهم ، مع أنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، والذى لا يقبل - سبحانه - ديناً سواه . قال - تعالى - : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . . . } وقال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } ويصح أن يكون المراد بدين الحق . ما يشمل دين الإِسلام وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء السابقون .

أى : ولا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه ، وشرعها لعباده ، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم .

وعبر عنهم في قوله : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . } بالاسم الموصول للإِيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال .

أى أن العلة في الأمر بقتالهم ، كونهم لا يؤمنون باللهو لا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق .

وقوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى ؛ لأن الحديث عنهم ، وعن الأسباب التي توجب قتالهم .

والمراد بالكتاب : جنسه الشامل للتوراة والإِنجيل .

أى : قاتلوا من هذه صفاتهم ، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل - عن طريق موسى وعيسى - عليهما السلام - ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم .

والمقصود بقوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم ، لأن حكم هؤلاء قتالهم حتى يسلموا ، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال ، أو الإِسلام ، أو الجزية :

وقوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } غاية لإِنهاء القتال .

أى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطو الجزية عن طوع وانقياد ، فإن فعلوا ذلك فاتركوا قتالهم .

والجزية : ضرب من الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهى - كما يقول القرطبى : - من جزى يجزى - مجازاة - إذا كافأ من اسدى إليه . فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن ، وهى كالقعدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

يجزيك أو يثنى عليك وإن من . . . أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

والمراد بإعطائها في قوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية } ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك .

واليد هنا : يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد . أى : حتى يعطوا الجزية عن خضوع وإنقياد .

ويحتمل أن تكون كناية و " عن " الدفع نقداً بدون تأجيل . أى : حتى يعطوها نقداً بدون تسويف أو تأخير .

ويحتمل أن تكون على معناها الحقيقى ، و " عن " بمعنى الباء أى : حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم .

وهذه المعانى لليد إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى . أى : يد الكتابى .

أما إذا أردنا بها اليد الآخذة - وهى يد الحاكم المسلم - ففى هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر والغلبة .

أى : حتى يعطوها عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : قوله : " عن يد " إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يده ، أى عن يد مؤاتيه غير ممتنعة ، إذ أن من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده ، إذا انقاد وأصحب - أى : سهل بعد صعوبة - ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه .

أو المعنى : حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ، لا مبعوثاً بها على يد أحد ، ولكن يد المعطى إلى يد الآخذ .

ومعناه على إرادة يد الآخذ : حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية - وهى يد المسلمين - أو حتى يعطوها عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم ، نعمة عظيمة عليهم .

وقوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } من الصغار بمعنى الذل والهوان . يقال : صغر فلان يصغر صغراً وصغاراً إذا ذل وهان وخضع لغيره .

والمعنى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد . وهم أذلاء خاضعون لولايتكم عليهم . . فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله .

ولا يتخذون الدين الحق ديناً لهم . يستحقون هذا الهوان في الدنيا ، أما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى .

هذا . ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

1- إن هذه الآية أصل في مشروعية الجزية ، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند كثير من الفقهاء - لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإِسلام أو القتال أو الجزية ، أما غيرهم من مشركى العرب فلا يخيرون إلا بين الإِسلام أو القتال .

قال القرطبى ما ملخصه : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة ، عربا كانوا أو عجماً لهذه الآية : فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم ، لقوله - تعالى - في شأن المشركين : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب .

وقال الشافعى : وتقبل من المجوس لحديث " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أى : في أخذ الجزية منهم .

وبه قال وأبو ثور . وهو مذهب الثورى وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب .

وكلذلك مذهب مالك : فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجمياً تغليبا أو قرشياً ؛ كئنا من كان إلا المرتد . .

2- أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم ، وكفنا عن قتالهم ، ومساهمة منهم في رفع شأن الدولة الإِسلامية التي أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم . ومقدساتهم . . وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم ، ورعايتهم ، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة . .

وفى تاريخ الإِسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى ، ومن ذلك ، ما جاء في كتاب الخراج لأبى يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد " وينبغى يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد - صلى الله عليه وسلم - والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شئ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ؛ فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ظلم من أمتى معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه " .

وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته : أوصى الخليفة من بعدى بذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم .

وجاء في كتاب " أشهر مشاهير الإِسلام " أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإِسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون شوكة التتار ، ودان ملوكهم بالإِسلام ، خاطب شيخ الإِسلام ابن تيمية ، أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأُبى أن يسمح بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإِسلام : لا بد من إطلاق وجميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له .

وجاء في كتاب " الإِسلام والنصرانية " للأستاذ الإِمام محمد عبده ما ملخصه :

" . . . الإِسلام كان يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين . ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عوناً على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة " .

خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال .

جاءت السنة بالنهى عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " و " من آذى ذميا فليس منا " .

واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإِسلام . ولست أبلى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في أبناء الإِسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف .

ثم قال : أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله ، وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم - بعد العجز عن إخراجهم من دينهم - طردتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار عن آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقاً .

ولا يمنع غير المسيحى من تعدى المسيحى إلا كثرة العدد أو شدة العضد ، كما شهد التاريخ ، وكما يشهد كاتبوه .

ثم قال : فأنت ترى الإِسلام يكتفى من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشئ من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم .

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال السيوطى : استدل بقوله - تعالى - { وَهُمْ صَاغِرُونَ وَهُمْ صَاغِرُونَ } من قال إنها تؤخذ بإهانة ، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمى ويطأطئ رأسه ، ويجنى ظهره ، ويقبض الآخذ لحيته . . . إلخ .

وقد رد الإِمام ابن القيم على هذا القائل بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو من مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه .

والصواب في الآية ، أن الصغار : هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك هو الصغار ، وبه قال الشافعى .

والذى ناره أن ما قاله الإِمام ابن القيم في رده هو عين الصواب ، وأن ما نقله السيوطى عن بعضهم . . . يتنافى مع سماحة الإِسلام وعدله ورحمته بالناس .

هذا ، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا محال لذكرها هنا ، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه والتفسير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها ، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام ، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوماً فيوماً ، واستقلّ أمره بالمدينة ، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين ، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها .

ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين ، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية ، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم ، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم ، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم . ففي « صحيح البخاري » عن عمر بن الخطاب أنّه قال : « كان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف مَلِكاً من ملوك غسّان ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم يُنْعِلون الخيلَ لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدُقّ الباب فقال : افتح افتح . فقلت : أجَاء الغسّاني . قال : بل أشَدُّ من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث .

فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم ، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام .

وعن مجاهد : أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى ، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك .

و { مِن } بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها .

وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول ، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات ، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد ، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر ، وتحريمُ ما حرم الله ، والتديُّنُ بدين الحقّ . ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء .

وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى ، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر ، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به ، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا : { يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] . وقال كثير منهم : { عزيز ابن الله } [ التوبة : 30 ] .

وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم : { لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر . وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات .

والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين .

فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة { ولا يدينون دين الحق } .

وأمّا قوله : { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { ورسوله } فإدماج . فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى ، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أممِ المعروفِ من العالم يومئذٍ ، فقد كانت الروم نصارى ، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر ، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين ، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم .

ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول ، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام ، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات ، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية ، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } [ الفرقان : 63 68 ] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى ، والتعويل في مثل هذا على القرائن .

وقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } بيان لأقرب صلة منه وهي صلة { ولا يدينون دين الحق } والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه . وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم ، وإنّما دانوا بما حرفوا منه ، ومَا أنكروا منه ، وما ألصقوا به ، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام ، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون } [ آل عمران : 81 83 ] .

وقوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل ، فيفيد قوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً . والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك .

والمراد ( برسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم .

وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .

و { حتّى } غاية للقتال ، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية .

وضمير { يعطوا } عائِد إلى { الذين أوتوا الكتاب } .

والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض ، بنيتْ على وزن اسم الهيئة ، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا ، فلذلك كان الظاهر . هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة ( كِزْيَت ) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي ، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في « مفردات القرآن » . ولم يذكروها في « مُعَرَّب القرآن » لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية .

وقوله : { عن يد } تأكيد لمعنى { يعطوا } للتنصيص على الإعطاء و { عن } فيه للمجاوزة . أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها ، ومحلّ المجرور الحال من الجزية . والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب « أعطى بيده » إذا انقاد .

وجملة { وهم صاغرون } حال من ضمير يعطوا .

والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً . إذا ذلّ ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } في سورة الأنعام ( 124 ) ، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد : والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي ، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام . وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم ، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب . وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب ، دون مشركي العرب : لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] وقوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } [ التوبة : 11 ] وقوله { ويتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] . ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .