التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

ثم وجه - سبحانه - إليهن نداء ثانيا فقال : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن } .

أى : يا نساء النبى ، لقد أعطاكن الله - تعالى - من الفضل من سمو المنزلة ما لم يعط غيركن ، فأنتن فى مكان القدوة لسائر النساء ، وهذا الفضل كائن لكن إن اتقيتن الله - تعالى - وصنتن أنفسكن عن كل ما نهاكن - سبحانه - عنه .

قال صاحب الكشاف : أحد فى الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع فى النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه . ومعنى قوله { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء . أى : إذا استقصيت أمة النساء جماعة جماعة ، لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والسابقة .

وجواب الشرط فى قوله { إِنِ اتقيتن } محذوف لدلالة ما قبله عليه . أى : إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء .

قال الآلوسى : قوله { إِنِ اتقيتن } شرط لنفى المثلية وفضلهن على النساء ، وجوابه محذوف دل عليه المذكور . . والمفعول محذوف . أى : إن اتقيتن مخالفة حكم الله - تعالى - ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم ، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك . والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن ، بمنزلة الخروج من التقوى .

فالمقصود بالجملة الكريمة بيان أن ما وصلن إليه من منزلة كريمة ، هو بفضل تقواهن وخشيتهن لله - تعالى - وليس بفضل شئ آخر .

ثم نهاهن - سبحانه - عن النطق بالكلام الذى يطمع فيهن من فى قلبه نفاق وفجور فقال : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } .

أى : فلا ترققن الكلام ، ولا تنطقن به بطريقة لينة متكسرة تثير شهرة الرجال ، وتجعل مريض القلب يطمع فى النطق بالسوء معكن ؛ فإن من محاسن خصال المرأة أن تنزه خطابها عن ذلك ، لغير زوجها من الرجال .

وهكذا يحذر الله - تعالى - أمهات المؤمنين - وهن الطاهرات المطهرات - عن الخضوع بالقول ، حتى يكون فى ذلك عبرة وعظة لغيرهن فى كل زمان ومكان ؛ فإن مخاطبة المرأة - لغير زوجها من الرجال - بطريقة لينة مثيرة للشهوات والغرائز ، تؤدى إلى فساد كبير ، وتطمع من لا خلاق لهم فيها .

ثم أرشدهن - سبحانه - إلى القول الذى يرضيه فقال : { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } .

أى : اتركن الكلام بطريقة تطمع الذى فى قلبه مرض فيكن ، وقلن قولا حسنا محمودا . وانطقن به بطريقة طبيعية ، بعيدة عن كل ريبة ، أو انحراف عن الحق ، والخلق الكريم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد ، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في لحفهن ، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله ، وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول ، و { لا تخضعن } معناه ولا تلن ، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها ، وإن لم يكن المعنى مريباً ، والعرب تستعمل لفظة الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج : هل رأيت قط من توبة شيئاً تكرهينه ، قالت : لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوماً شعراً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته : [ الطويل ]

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها . . . فليس إليها ما حييت سبيل{[9507]}

الحكاية ، وقال ابن زيد : خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل ، وقرأ الجمهور «فيطمعَ » بالنصب على أنه نصب بالفاء في جواب النهي ، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمعِ » بالجزم وكسر للالتقاء{[9508]} ، وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر ، وقراءة الجمهور أبلغ في النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع ، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن عمر «فيَطمِع » بفتح الياء وكسر الميم ، و «المرض » في هذه الآية قال قتادة هو النفاق ، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية ، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس .


[9507]:ذكر الأصبهاني الحكاية في الأغاني عن رجل يقال له:ورقاء، قال: سمعت الحجاج يقول ليليى الأخيلية: إن شبابك قد ذهبأ واضمحل أمرك وأمر توبة، فأقسم عليك إلا صدقتني، هل كانت بينكم ريبة قط أو خاطبك في ذلك قط؟ فقالت: لا والله أيها الأمير، إلا أنه قال لي ليلة-وقد خلونا- كلمة ظننت انه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له: وذي حاجة قلنا له لا تبُح بها فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه وأنت لأخرى فارغ وحليل فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا الموت.
[9508]:قال أبو الفتح:"هو معطوف على قول الله تعالى:{فلا تخضعن بالقول}، أي: فلا يطمع الذي في قلبه مرض، فكلاهما منهي عنه، إلا أن النصب أقوى معنى، وأشد إصابة للغدر، وذلك انه إذا نصب كان معناه أن طمعه إنما هو مسبب عن خضوعهن بالقول، فالأصل في ذلك منهي عنه، والمنهي سبب عن فعلهن، وإذا عطفه كان نهيا لهن وله، وليس فيه دليل على أن الطمع راجع الأصل إليهن، وواقع من أجلهن".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

{ يانسآء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن }

أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه .

وأحد : اسم بمعنى واحد مثل : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وهمزته بدل من الواو . وأصلهُ : وَحَد بوزن فَعَل ، أي متوحِّد ، كما قالوا : فَرَد بمعنى منفرد . قال النابغة يذكر ركوبه راحلته :

كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد

يُريد على ثور وحشي منفرد . فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا : أَحد ، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي ، قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس .

ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [ النساء : 95 ] ، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة { غير أولي الضرر } وجه ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ( 95 ) . فالمعنى : أنتُنَّ أفضل النساء ، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة ، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره ، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن ، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص ، ألا ترى إلى قوله : حُبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وقال تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن .

والتقييد بقوله : { إن اتقيتن } ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى ، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل " فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام .

وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام ، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله .

واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة . وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك ، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط . أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في « شرح الترمذي » في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر ، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر ، ثم رُفع الميزان .

والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال . وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل . ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد » . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها .

والأحسن أن يكون الوقف على { إن اتقيتن } ، وقوله { فلا تخضعن } ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط .

{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا }

فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها ، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة ، وفيها منافقوها .

وابتدىء من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه ، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة . فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه ، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة ، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين .

والخضوع : حقيقته التذلّل ، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل .

والباء في قوله : { بالقول } يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية ، أي لا تُخضعن القول ، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً ، أي رقيقاً متفكّكا . وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك : ذهبت بزيد ، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك ، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة ، وأفيدت التعدية بالباء . ويجوز أن تكون الباء بمعنى ( في ) ، أي لا يكن منكُن لِين في القول .

والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت ، أي ليكن كلامكن جزلاً .

والمرض : حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة ، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام ، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك .

وتقدم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) .

وانتصب { يطمَع } في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع .

وحذف متعلِق { فيطمع } تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة .

وعَطْفُ { وقلن قولاً معروفاً } على { لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار .

والقول : الكلام .

والمعروف : هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام ، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام ، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب : فليقل خيراً أو ليصمت . وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل .