التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للمتقين ، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد ، وببيان أن الإسلام هو الدين الذى ارتضاه الله - تعالى - للناس ، وأن من يعارض فى ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه . استمع إلى القرآن وهو يحكي ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : { شَهِدَ الله . . . } .

قال القرطبي : " لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذى يخرج في آخر الزمان ! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد ؟ قال نعم قالا : وأنت أحمد ؟ قال : نعم . قالا : نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني . فقالا : أخبرنا عن الأعظم شهادة في كتاب الله . فأنزل الله تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى : { شَهِدَ الله } أى بين وأعلم كما يقول : شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق أو على من هو قال الزجاج : " الشاهد هو الذى يعلم الشيء ويبينه ، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين " .

والمعنى : أخبر الله - تعالى - عباده وأعلمهم بالآيات القرآنية التي أنزلها على نبيه ، وبالآيات الكونية التى لا يقدر على خلقها أحد سواه ، وبغير ذلك من الأدلة القاطعة التي تشهد بوحدانيته ، وأنه لا معبود بحق سواه ، وأنه هو المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق . وأن الجميع عبيده وفقراء إليه وهو الغني عن كل ما عداه . وشهد بذلك " الملائكة " بأن أقروا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد فعبدوه حق العبادة ، وأطاعوه حق الطاعة ، وشهد بذلك أيضاً " أولو العلم " بأن اعترفوا له - سبحانه - بالوحدانية ، وصدقوا بما جاهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبلغوا ذلك لغيرهم .

قال الزمخشرى : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التى لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، بشهادة الشاهد فى البيان والكشف وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه " .

وقالوا : وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء ، فإنه لو كان أحد أشرف العلماء ، لقرنهم الله باسمه وسام ملائكته كما قرن العلماء . وقال في شرف العلم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم . وقال صلى الله عليه وسلم " إن العلماء ورثة الأنبياء " وقال : " العلماء أمناء الله على خلقه " وهذا شرف للعلماء عظيم ومحل لهم في الدين خطير .

والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم ، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم ، وأخلصوا لله في عبادتهم ، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم . وقدم سبحانه - الملائكة على أولى العلم ، لأن فيهم من هو واسطة لتوصيل العلم إلى ذويه ، لأن علمهم كله ضرورى بخلاف البشر فإن علمهم منه ما ضرورى ، ومنه ما هو اكتسابى .

وقوله - تعالى - { قَآئِمَاً بالقسط } بيان لكماله - سبحانه - في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته . والقسط : العدل . يقال قسط ويقسط قسطاً ، وأقسط إقساطاً فهو مقسط إذا عدل ومنه { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويطلق القسط على الجور ، والفاعل قاسط ، ومنه { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أى : مقيما للعدل في تدبير أمر خلقه ، وفى أحكامه . وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال ، وفيما يأمر به وينهى عنه ، وفى كل شأن من شؤونه .

قال الجمل و { قَآئِمَاً } منصوب على أنه حال من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا ، فتكون الحال أيضا فى حيز الشهادة ، فيكون المشهود به أمرين : الوحدانية والقيام بالقسط وهذا أحسن من جعله حالا من الاسم الجليل فاعل شهد ، لأن عليه يكون المشهود به الوحدانية فقط والحال ليست في حيز الشهادة .

وقوله { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير ، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل ، والاعتناء به يتقضى الاعتناء بأدلته .

{ العزيز الحكيم } صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل . أي لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله { العزيز } الذى لا يمتنع عليه شيء أراده ، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه { الحكيم } في تدبيره فلا يدخله خلل .

قال ابن جرير : " وإنما عنى جل ثناؤه - بهذه الآية نفى ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من النبوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك : من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا ، فأخبرهم الله عن نفسه ، أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدا - جل ثناؤه - بنفسه تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره مؤدباً خلقه بذلك " .

هذا ، ومن الآثار التى وردت في فضل هذه الآية ما رواه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } . . . إلى آخر الآية . فقال صلى الله عليه وسلم : " وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب " . وقال غالب القطان : أتيت الكوفة في تجارة لي فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه ، فقام في ليلة متهجدا فمر بهذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فقال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وهى لى وديعة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، - قالها مراراً - فقلت . لقد سمع فيها شيئا فسألته في ذلك فقال : حدثني أبو وائل بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله - تعالى - " عبدي عهد إلى وأنا أحق من وفى العهد أدخلوا عبدي الجنة " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

أصل { شهد } في كلام العرب حضر ، ومنه قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }{[3028]} ثم صرفت الكلمة حتى قيل في أداء ما تقرر علمه في النفس بأي وجه تقرر من حضور أو غيره : شهد يشهد فمعنى { شهد الله } أعلم عباده بهذا الأمر الحق وبينه ، وقال أبو عبيدة : { شهد الله } معناه ، قضى الله وهذا مردود من جهات ، وقرأ جميع القراء : { أنه لا إله } بفتح الألف من { أنه } وبكسرها من قوله : { إن الدين } [ آل عمران : 19 ] واستئناف الكلام ، وقرأ الكسائي وحده «أن الدين » بفتح الألف ، قال أبو علي : «أن » بدل من { أنه } الأولى ، وإن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، لأن الإسلام هو التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلت «إن الدين » بدلاً من القسط لأنه هو في المعنى . ووجه الطبري هذه القراءة ، بأن قدر في الكلام ، واو عطف ثم حذفت وهي مرادة كأنه قال : { وإن الدين } [ آل عمران : 19 ] وهذا ضعيف ، وقرأ عبد الله بن العباس : «إنه لا إله إلا هو » بكسر الألف من «إنه » ، وقرأ «أن الدين » بفتح الألف ، فأعمل { شهد } في «أن الدين » وجاء قوله : «إنه لا إله إلا هو » اعتراضاً جميلاً في نفس الكلام المتصل . وتأول السدي الآية على نحو قراءة ابن عباس فقال : الله وملائكته والعلماء يشهدون : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقرأ أبو المهلب{[3029]} عم محارب بن دثار{[3030]} ، «شهداء الله » على وزن فعلاء ، وبالإضافة إلى المكتوبة ، قال أبو الفتح{[3031]} ، هو نصب على الحال من الضمير في { المستغفرين } [ آل عمران : 17 ] وهو جمع شهيد أو جمع شاهد كعالم وعلماء ، وروي عن أبي المهلب هذا أنه قرأ «شهدُ الله » برفع الشهداء ، وروي عنه أنه قرأ «شُهُد الله » على وزن - فُعُل- بضم الفاء والعين ونصب شهداء على الحال ، وحكى النقاش أنه قرىء «شُهُد الله » بضم الشين والهاء ، والإضافة إلى المكتوبة قال : فمنهم من نصب الدال ومنهم من رفعها ، وأصوب هذه القراءات قراءة الجمهور ، وإيقاع الشهادة على التوحيد ، و { الملائكة وأولو العلم } عطف على اسم الله تعالى ، وعلى بعض ما ذكرناه من القراءات يجيء قوله : { والملائكة وأولو العلم }ابتداء وخبره مقدر ، كأنه قال : { والملائكة وأولو العلم } يشهدون و { قائماً } نصب على الحال من اسمه تعالى في قوله : { شهد الله } أو من قوله { إلا هو } وقرأ ابن مسعود «القائم بالقسط » والقسط العدل .


[3028]:- من الآية (185) من سورة البقرة.
[3029]:- لم أجد في من يكنون بهذه الكنية من يعد عما لمحارب، وسقطت لفظة "عم" من المحتسب 1/155 فأصبح: "أبو المهلب محارب بن دثار".
[3030]:- محارب بن دثار السدوسي الكوفي، كان قاضيا بالكوفة، روى عن ابن عمر وعبد الله بن يزيد النخعي وغيرهما، وعنه عطاء بن السائب، وأبو إسحاق الشيباني والأعمش وغيرهم، تابعي ثقة (تهذيب التهذيب 1/ 49).
[3031]:- انظر المحتسب 1/ 155-156، وقوله قبل ذلك (إلى المكتوبة) يريد بالمكتوبة لفظ الجلالة.