التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

ثم حكت السورة الكريمة ما سيقوله الله لعيسى يوم القيامة ، وما سيرد به عيسى على خالقه - عز وجل - حتى تزداد حسرة الذين وصفوا المسيح وأمه . بما هما بريئان منه فقال - تعالى - :

{ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ . . . }

قوله : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك : { إِذْ قَالَ الحواريون } والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول إنما يكون في الآخرة - على الصحيح -

والمعنى : واذكر أيها الرسول الكريم وليذكر معك كل مكلف وقت أن يسأل الله - تعالى - عبده ورسوله عيسى فيقول له يا عيسى : أأنت قلت للناس { اتخذوني } أي : اجعلوني { وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } أي من غير الله .

قال القرطبي : اختلف في وقت هذه المقالة ، فقال قتادة وابن جريرج وأكثر المفسرين : إنما يقول له هذا يوم القيامة . وقال السدي وقطرب : قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت فإن { إذ } في كلام العرب لما مضى والأول أصح ، يدل عليه ما قبله من قوله { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } الآية . كما يدل عليه ما بعده وهو قوله : { يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } وعلى هذا تكون إذ بمعنى إذا كما في قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } أي : إذا فزعوا فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي . لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه . كأنه قد وقع .

وكان النداء بقوله - سبحانه - { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } أي : بيغر ذكر النبوة ، للإِشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفي أن يكون إلها أو ابن إله أو فيه عنصر الألوهية بأي وضع من الأوضاع لأن الألوهية والبشرية نقيضان لا يجتمعان فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية ، ولا إله فيه بشرية .

والتعبير بقوله { اتخذوني } يدل على أنه ليس له حقيقة ، بل هو في ذاته اتخاذ بما لا أصل له .

والمقصود بالاستفهام في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ } توبيخ للكفرة من قومه وتبكيت كل من نسب إلى عيسى وأمه ما ليس من حقهما ، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد في ذلك اليوم العصيب ، لأن عيسى سينفي عن نفسه أمامهم أنه قال ذلك " وإنما هو أمرهم بعبادة الله وحده . ولا شك أن النفي يعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع وادعى لقيام الحجة على من وصفوه بما هو برئ منه .

قال الآلوسي : واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحداً من النصارى اتخذ مريم إلها .

وأجيب عنه بأجوبة .

الأول : أنهم لما جعلوا عيسى إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضاً كذلك لأن الولد من جنس من يلده ، فذكر { إلهين } على طريق الإِلزام لهم .

والثاني : أنهم لما عظموها تعظيم الإِله أطلق عليها اسم الإِله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } والثالث : أنه يحتمل أن ثيكون فيهم من قال بذلك .

ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإِمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم : المريمية ، يعتقدون في مريم الألوهية وهو أولى الأوجه عندي .

وقوله - تعالى - { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } بيان لما أجاب به عيسى على خالقه - عز وجل - .

أي : قال عيسى مجيبا ربه بكل أدب وإذعان : تنزيها لك - يا إلهي - عن أن أقل هذا القول ، فإنه ليس من حقي ولا من حق أحد أن ينطق به .

فأنت ترى أن سيدنا عيسى - عليه السلام - قد صدر كلامه بالتنزيه المطلق لله - عز وجل - ثم عقب ذلك بتأكيد هذا التنزيه ، بأن أعلن بأنه ليس من حقه أن يقول هذا القول ، لأنه عبد له - تعالى - ومخلوق بقدرته . ومرسل منه لهداية الناس فكيف يليق بمن كان شأنه كذلك أن يقول لمن أرسل إليهم { اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } .

ثم أضاف إلى كل ذلك الاستشهاد بالله - تعالى - على براءته ، وإظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه وقدرته فقال - كما حكى القرآن عنه - { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } .

أي : إن كنت قلت هذا القول وهو { اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } فأنت تعلمه ولا يخفى عليك منه شيء - لأنك أنت - يا إلهي - تعلم ما في { نفسي } أي ما في ذاتي ، ولا أعلم ما في ذاتك .

والمراد : تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وتعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل إنك أنت - يا إلهي - علام الغيوب .

فهذه الجملة الكريمة بجانب تأكيدها لنفي ما سئل عنه عيسى - عليه السلام - تدل بأبلغ تعبير على إثبات شمول علم الله - تعالى - بكل شيء ، وقد أكد عيسى ذلك ، بإن المؤكدة وبالضمير أنت ، وبصيغة المبالغة " علاّم " وبصيغة الجمع للفظ " الغيوب " فهو لم يقل : إنك أنت غالم الغيب وإنما قال - كما حكى القرآن عنه - { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } بكل أنواعها ، وبكل ما يتعلق بالكائنات كلها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول . فقال السدي وغيره : لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال { سبحانك } الآية .

قال القاضي أبو محمد : فتجيء { قال } على هذا متمكنة في المضي ويجيء قوله آخراً { وإن تغفر لهم } [ المائدة : 118 ] أي بالتوبة من الكفر ، لأن هذا ما قاله عيسى عليه السلام وهم أحياء في الدنيا وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس : هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة ، يقول الله له على رؤوس الخلائق ، فيرى الكفار تبرية منهم ، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل{[4800]} .

قال القاضي أبو محمد : وقال على هذا التأويل بمعنى يقول . ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته ، وقوله آخراً { وإن تغفر لهم } [ المائدة : 118 ] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك ، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب ، وليس المعنى أنه لا بد من أن تفعل أحد هذين الأمرين . بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به . وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين .

وسبحانك معناه تنزيهاً لك عن أن يقال هذا وينطق به ، وقوله { ما يكون لي أن أقول } . . . . الآية . نفي يعضده دليل العقل ، فهذا ممتنع عقلاً أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية ، وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه ، ومنه قول الصديق رضي الله عنه : ما كان لابن قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال { إن كنت قلته فقد علمته } فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة البالغة ، وقوله { تعلم ما في نفسي } بإحاطة الله به ، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات ، والمعنى : أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل أمره مما عسى ألا يكون في نفسه ، وقوله : { ولا أعلم ما في نفسك } معناه : ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به . وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز ، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله { ومكروا ومكر الله }{[4801]} { الله يستهزىء بهم }{[4802]} ، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة ، ثم أقر عليه السلام لله تعالى بأنه { علام الغيوب } ، والمعنى ولا علم لي أنا بغيب فكيف تكون لي الألوهية ؟ .


[4800]:- قال القرطبي: "وهذا القول أصح، ويدل عليه ما قبله من قوله: {يوم يجمع الله الرسل} وما بعده {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}"، وعلى هذا تكون (إذ) في قوله: {وإذ قال الله} بمعنى (إذا) كقوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا}، وكما هي في قول أبي النجم: ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العُلا يعني: إذا جزى. وقال أبو عبيدة: إذ زائدة، وقال صاحب "البحر": والظاهر أنها على أصل وضعها، وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع، ولا يؤول بيقول.
[4801]:- من الآية (54) من سورة (آل عمران).
[4802]:- من الآية (15) من سورة (البقرة).