ثم ساق القرآن بعد ذلك قصة من قصص بني إسرائيل تدل على تنطعهم في الدين ، ومحاولتهم تضييق ما وسعه الله عليهم ، وتهربهم من الانصياع لكلمة الحق ، وتشككهم في صدق أنبيائهم ، وتعنتهم في السؤال . وهذه القصة هي قصة أمرهم على لسان نبيهم موسى - عليه السلام - بذبح بقرة . استمع إلى القرآن الكريم ، وهو يحكي هذه القصة بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول :
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً . . . }
روى المفسرون أنه كان في بني إسرائيل رجل غني ، وله ابن عم فقير لا وارث له سواه ، فلما طال عليه موته قتله ليرثه ، وحمله إلى قرية أخرى فالقاه فيها ، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى نبيهم موسى - عليه السلام - يدعى عليهم القتل ، فسألهم موسى - عليه السلام - فجحدوا فسألوه أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي ، فدعا موسى ربه فأوحى الله - تعالى - إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً . . . } .
وقد ساق القرآن الكريم هذه القصة بأسلوبه البديع الذي يأخذ بمجامع القلوب ، ويحرك النفوس إلى النظر والاعتبار ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل - لتعتبروا وتتعظوا وقت أن حدث في أسلافكم قتيل ولم يعرف الجاني . فطلب بعض أهله وغيرهم ممن يهمه الأمر من موسى - عليه السلام - أن يدعو الله - تعالى - ليكشف لهم عن القاتل الحقيقي ، فقال لهم { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } فدهشوا وقالوا بسفاهة وحماقة { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } أي أتجعلنا موضع سخريتك ؟ { قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } الذين يخبرون عنه بما لم يأمر به .
والذي عليه جمهور المفسرين أمرهم بذبح البقرة كان بعد تنازعهم في شأن القاتل من هو ؟ وذلك ليعرف القاتل الحقيقي إذا ضرب القتيل ببعضها ، كما سيأتي في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .
وقد أمرهم الله - تعالى - بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات ؛ لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ، وفي أمرهم بذلك تهوين لشأن هذا الحيوان الذي عظموه وعبدوه وأحبوه فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن هذا البقر الذي يضرب به المثل في البلادة ، لا يصلح أن يكون معبوداً من دون الله ، وإنما يصلح للحرث والسقى والعمل والذبح .
وقولهم { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } يدل على سفههم وسوء ظنهم بنبيهم وعدم توقيرهم له وجهلهم بعظمة الله - تعالى - وما يجب أن يقابل به أمره من الانقياد والامتثال ، لأنهم لو كانوا عقلاء لامتثلوا أمر نبيهم ، وانتظروا النتيجة بعد ذلك . ولكنهم قوم لا يعقلون .
ولما كان قولهم هذا القول يدل على اعتقادهم بأن موسى - عليه السلام - قد أخبر عن الله بما لم يؤمر به ، أجابهم موسى بقوله : { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } : أي ألتجئ إلى الله وأبرأ إليه من أن أكون من السفهاء الذين يروون عنه الكذاب والباطل ، وفي هذا الجواب تبرؤ وتنزهه عن الهزء ، وهو المزاح الذي يخالطه احتقاره واستخفاف بالممازح معه - لأنه لا يليق بعقلاء الناس فضلا عن رسل الله - عليهم السلام - كما أن فيه - أيضاً - رداً لهم - عن طريق التعريض بهم - إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق ، حيث بين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بمن يجهل عظمة الله - تعالى- .
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين عند تفسيره للآية الكريمة :
( وقد نبهت الآية الكريمة ، على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير ، ومن الجهل ما يلقى صاحبه في أسوأ العواقب ، ويقذف به في عذاب الحريق ، ومن هنا منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل ، وقالوا : إنما أنزل القرآن الكريم ليتلى يتدبر وخشوع ، وليعمل به بتقبل وخضوع ) .
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } أول هذه القصة قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها } وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته : أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه وطرحوه على باب المدينة ، ثم جاءوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله .
{ قالوا أتتخذنا هزوا } أي مكان هزؤ ، أو أهله ومهزوءا بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعادا لما قاله واستخفافا به ، وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع بالسكون ، وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوا . { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } لأن الهزؤ في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان ، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له .
تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لاقصد إليه . قيل : إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها } [ البقرة : 72 ] الآية وإن قول موسى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ناشىء عن قتل النفس المذكورة ، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤاً والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم ، هكذا ذكر صاحب « الكشاف » والموجهون لكلامه ، ولا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله : { وإذ } مع بقاء الترتيب ، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وقوله : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] .
فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني ( تثنية ) في الإصحاج 21 أنه « إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجُر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم » اهـ . هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلاً أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل ؟ وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جُهل قاتلها وهي المشار إليها هنا ، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس . وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعاً سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها ، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيماناً ولذلك ختمت بقوله :
{ ويريكم آياته لعلكم تعقلون } [ البقرة : 73 ] وأتبعت بقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] .
والتأكيد في قوله : { إن الله يأمركم } حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكداً بإنَّ .
وقولهم : { تتخذنا هزؤاً } استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و { تتخذنا } بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً آلهة } في سورة الأنعام ( 74 ) .
والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر هزأ به هزءاً وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق .
وقرأ الجمهور { هزؤًا } بضمتين وهمز بعد الزاي وصلاً ووقفاً ، وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلاً ، ووقف عليه بتخفيف الهمز واواً وقد رسمت في المصحف واواً ، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واواً في الوصل والوقف .
وقول موسى : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } تبرؤٌ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤِ مزحاً مع استخفاف واحتقار للمزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة ، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأنه نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه ، وبالغ في التنزه بقوله { أعوذ بالله } أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى . وصيغة { أن أكون من الجاهلين } أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام ( 56 ) عند قوله : { وما أنا من المهتدين } .
والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب ، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن الثاني قول الحماسي : فليس سواء عالم وجهول . . . وقول النابغة : وليس جاهل شيء مثل من علما . . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي، إذ قال موسى لقومه، وقومه بنو إسرائيل، إذ ادّارأوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه:"إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا".
والهزو: اللعب والسخرية... ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزو أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنه هازئ لاعب، ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبيّ الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة...فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية من الجاهلين، وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك، فقال: "أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ "يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل. وكان سبب قيل موسى لهم: "إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً"... عن أبي العالية في قول الله "إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة "قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى، فقال له: إن قريبي قتل، وأتى إليّ أمرٌ عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبيّ الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا فلم يكن عندهم علمه، فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبيّ الله، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله إليه: "إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فعجبوا وقالوا: أتَتّخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّه يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة لا فارِض" يعني هرمة "وَلا بكْر" يعني ولا صغيرة "عَوَان بينَ ذلكَ" أي نصف بين البكر والهرمة. "قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما لَوْنُها قال إنهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة صَفْرَاءُ فاقِع لَوْنُها" أي صاف لونها "تَسُرّ النَاظِرِينَ" أي تعجب الناظرين. "قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنَا وَإنَا إنْ شاءَ الله لمهتدون قال إنه يقول أنها بقرة لا ذلول"، أي لم يذللها العمل، تثير الأرض يعني ليست بذلول فتثير الأرض "ولا تسقي الحرث" يقول ولا تعمل في الحرث "مسلمة" يعني مسلمة من العيوب "لا شية فيها". يقول لا بياض فيها. "قالُوا الاَنَ جِئْتَ بالحَقّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ". قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدّد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا إنا إن شاء الله لمهتدون، لما هدوا إليها أبدا، فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها، فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان، فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه فقتله الله على أسوء عمله... فلم يورث قاتل بعد ذلك.
قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أَتتخِذُنا هزواً} إلى قوله {وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها} إلى آخر الآية... في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروبٌ من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة.
وقوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} قد دلّ على جواز ورود الأمر بذبح البقرة: بقرة مجهولة غير معروفة ولا موصوفة، ويكون المأمور مخيراً في ذبح أدنى ما يقع الاسم عليه...
أنهم لما تعنَّتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراجعة مرة بعد أخرى شدّد الله عليهم التكليف وذمّهم على مراجعته بقوله: {فذبحوها وما كادوا يفعلون}...
روى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسُ محمدٍ بيَدِهِ لو اعْتَرَضُوا أدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوها لأَجْزَتْ عَنْهُمْ ولكنّهم شدَّدوا فَشَدّد الله عليهم". وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعبيدة وأبي العالية والحسن ومجاهد...
أحدها: وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله.
والثاني: أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير.
والثالث: جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما يقع الاسم عليه منه.
والرابع: وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة، إذ لم يلحقهم الذم إلا بترك الأمر المطلق من غير ذكر وعيد.
والخامس: جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه؛ وذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها، لأن قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} اقتضى ذبح بقرة أيها كانت، وعلى أي وجه شاءوا وقد كانوا متمكنين من ذلك. فلما قالوا: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} فقال: {إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون} نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقيل لهم افعلوا ما تؤمرون، فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أي لون كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو غيرها، فلما قالوا: {ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها} نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاءوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها، فلما راجعوا نُسِخ ذلك أيضاً وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف...
والتاسع: دلالة قوله: {أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} على أن المستهزئ يستحق سِمَةَ الجهل، لانتفاء موسى عليه السلام أن يكون من أهل الجهل بنفيه الاستهزاء عن نفسه، ويدل أيضاً على أن الاستهزاء بأمر الدين من كبائر الذنوب وعظائمها، لولا ذلك لم يبلغ مأْثَمُهُ النسبة إلى الجهل.
وذكر محمد بن مسعر أنه تقدم إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي قال -وعليَّ جبة صوف وكان عبيد الله كثير المزح- قال: فقال له: أصوف نعجة جُبَّتك أم صوف كبش؟ فقلت له: لا تجهل أبقاك الله! قال: وأنى وجدت المزاح جهلاً؟ فتلوت عليه {أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} قال: فأعرض واشتغل بكلام آخر.
وفيه دلالة على أن موسى عليه السلام لم يكن متعبداً بقتل من ظهر منه الكفر، وإنما كان مأموراً بالنظر بالقول، لأن قولهم لنبي الله {أتتخذنا هزواً} كفر وهو كقولهم لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف: 138]...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَالَ: أعُوذُ بِاللهِ أنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ}: لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء، جهل، فاستعاذ منه موسى، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء.
وإنما أمر والله أعلم بذبح البقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل، ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم زوال ما كان في نفوسهم من عبادته.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذِهِ الْآيَةُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ، مُشْكِلَةٌ فِي النَّظَرِ؛ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُصُولِ وَمِن الْفُرُوعِ بِالْكَلَامِ فِي الدَّمِ، وَفِي كُلِّ فَصْلٍ إشْكَالٌ، وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ ذَلِكَ: رُوِيَ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ قَتَلَ رَجُلًا غِيلَةً بِسَبَبٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ؛ وَطَرَحَهُ بَيْنَ قَوْمٍ، وَكَانَ قَرِيبُهُ، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِمْ، تَرَافَعُوا إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ الْقَاتِلُ: قَتَلَ قَرِيبِي هَذَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَانْتَفُوا مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِرَغْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَبْيِينِ الْحَقِّ لَهُمْ؛ فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى؛ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَأَخْذِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَيِّتُ فَيَحْيَا فَيُخْبِرُهُمْ بِقَاتِلِهِ؛ فَسَأَلُوا عَنْ أَوْصَافِهَا وَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى صِفَتِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَطَلَبُوا تِلْكَ الْبَقَرَةَ فَلَمْ يَجِدُوهَا إلَّا عِنْدَ رَجُلٍ بَرٍّ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ فِيهَا مِسْكَهَا مَمْلُوءًا ذَهَبًا، فَبَذَلُوهُ فِيهَا، فَاسْتَغْنَى ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ فَقْرِهِ، وَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَالَ: فُلَانٌ قَتَلَنِي، لِقَاتِلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ: كَثُرَ اسْتِرْسَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ». وَمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقِصَصِهِمْ لَا بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْعَدَالَةِ وَالثُّبُوتِ إلَى مُنْتَهَى الْخَبَرِ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قَوْمِهِ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَإِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَرْعٍ لَمْ يَلْزَمْ قَوْلُهُ؛ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُمْسِكُ مُصْحَفًا قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْت: جُزْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ؛ فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ حُكْمٍ جَرَى فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ أَمْ لَا؟...الصَّحِيحَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا لَنَا مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ، لِفَسَادِ الطُّرُقِ إلَيْهِمْ؛ وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أُصُولِهِ كُلِّهَا،... وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْ قَصَصِ النَّبِيِّينَ، فَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الِازْدِجَارِ وَذِكْرِ الِاعْتِبَارِ فَفَائِدَتُهُ الْوَعْظُ، وَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الِامْتِثَالُ لَهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ}. فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ،...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ضَرَبَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْمَيِّتَ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ مِنْ الْبَقَرَةِ قَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ؛ فَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ بِهَذَا، وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مَقْبُولٌ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ هَذَا آيَةً وَمُعْجِزَةً عَلَى يَدي مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ. قُلْنَا: الْآيَةُ وَالْمُعْجِزَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي إحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا مَالِكٌ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه القصة مما أراد الله تعالى أن يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للاعتبار بها. ومن وجوه الاعتبار: أن التنطع في الدين والإحفاء في السؤال، مما يقتضي التشديد في الأحكام، فمن شدد شدّد عليه، ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمة عن كثرة السؤال بقوله {5: 101 يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم. عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}، وفي الحديث الصحيح "ويكره لكن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال "وقد امتثل سلفنا الأمر فلم يشددوا على أنفسهم، فكان الدين عندهم فطريا ساذجا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، وأكثروا منها حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت، وألقته وتخلت.
قال الأستاذ الإمام: جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاص الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرخين ولا طريقة الكتاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع حتى في القصة الواحدة. وإنما ينسق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر إلى النظر تحريكا، ويهز النفس للاعتبار هزا. وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إياها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كل ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كل عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كل توبة نعمة، ثم يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم. كان في الآيات السابقة يذكر النعمة فالمخالفة فالعقوبة فالتوبة فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون،...
وفي هذه القصة اختلف النسق فذكر المخالفة بعد في قوله {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} ثم المنة في الخلاص منها في قوله {فقلنا اضربوه ببعضها} الخ وقدم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوقه إلى معرفة ما وراءها [حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة، فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر والجدال الذي وقع فيه يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب فتتوجه الفكرة بأجمعها إلى تلقيه] إذ الحكمة في أمر الله أمة من الأمم بذبح بقرة خفيّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيما إذا لم يعتد فهم الأساليب الأخاذة بالنفوس الهازة للقلوب. وأقول: قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمونها الروايات في هذا العصر.
يقول أهل الشبهات في القرآن: إن بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصة إذ لا وجود لها في التوراة فمن أين جاء بها القرآن؟ ونقول: إن القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين: إنهم نسوا حظا مما ذكروا به وأنهم لم يؤتوا إلا نصيبا من الكتاب. على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل: ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه. وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى.
(قال الأستاذ)...إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين والمفسرين. فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه القصة القصيرة -كما يعرضها السياق القرآني- مجال للنظر في جوانب شتى.. جانب دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم الموروثة. وجانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة. ثم جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءا ونهاية واتساقا مع السياق..
إن السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه: انقطاع الصلة بين قلوبهم، وذلك النبع الشفيف الرقراق: نبع الإيمان بالغيب، والثقة بالله، والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل. ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف، وتلمس الحجج والمعاذير، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان!
لقد قال لهم نبيهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة).. وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ. فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين، برحمة من الله ورعاية وتعليم؛ وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه، إنما هو أمر الله، الذي يسير بهم على هداه.. فماذا كان الجواب؟ لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب، واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله -
فضلا على أن يكون رسول الله -أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله؛ وأن يردهم برفق، وعن طريق التعريض والتلميح، إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه؛ وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله، لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:
(قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)..
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم، وينفذوا أمر نبيهم.. ولكنها إسرائيل! نعم. لقد كان في وسعهم- وهم في سعة من الأمر -أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها، فإذا هم مطيعون لأمر الله، منفذون لإشارة رسوله.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان بنو إسرائيل في مصر، وكانوا أذلوهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعباداتهم، وألفوا ما كانوا يألفون، لقد كان المصريون يعبدون العجل، ويقدسونه، وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم ولم ينههم سائرهم عن عبادته، فاشتركوا جميعا في هذا المنكر.
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} ولو أتوا إلى أية بقرة فذبحوها لكان في ذلك استجابة لأمر الله تعالى، لأن الأمر المطلق تتحقق الإجابة فيه بالتنفيذ في أية جزئية من جزئياته، والمطلق يتحقق وجوده في أي فرد من أفراده.
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة، والطاعة ألا تتمرد، ولا تثير الجدل، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام أن قالوا، وكأنهم يتهكمون: {أتتخذنا هزوا} والهزو اللعب والسخرية، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم، وبالغوا في الهزء فقالوا: {أتتخذنا هزوا} أي أتجعلنا بأمرك في موضع الهزء والسخرية، وذلك لما ألفوه من أن البقرة مقدسة لا تذبح بل تعبد، وإذا لم تكن عندهم هذه الحال فإنه لا موضوع لأن يستهزئ بهم، ولا أن يسخر منهم بذكر أمر الله تعالى.
فقال موسى كليم الله: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67)} كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه، فأجابهم الرسول الرفيق، فقال: أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين؛ أي ألجأ إليه عائذا به متجها إليه أن أكون من الجاهلين، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى، ونفى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل، ولم يكتف بنفي الفعل؛ لأنه أبلغ وبيان أنه لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى: أولي العزم من الرسل، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى.
المفروض في كل الأمور أن الأمر تسبقه علته.. ولكن هذه عظمة القرآن الكريم.. لأن السؤال عن العلة أولا معناه أن الأمر صادر من مساو لك.. فإذا قال لك إنسان: افعل كذا.. تسأله لماذا؟ حتى أطيع الأمر وأنفذه.. إذن الأمر من المساوي هو الذي تسأل عن علته.. ولكن الأمر من غير المساوي.. كأمر الأب لابنه، والطبيب لمريضه، والقائد لجنوده.. مثل هذا الأمر لا يسأل عن علته قبل تنفيذه.. لأن الذي أصدره أحكم من الذي صدر إليه الأمر.. ولو أن كل مكلف من الله أقبل على الأمر يسأل عن علته أولا.. فيكون قد فعل الأمر بعلته. فكأنه قد فعله من أجل العلة.. ومن هنا يزول الإيمان.. ويستوي أن يكون الإنسان مؤمنا أو غير مؤمن.. ويكون تنفيذ الأمر بلا ثواب من الله..
إن الإيمان يجعل المؤمن يتلقى الأمر من الله طائعا.. عرف علته أو لم يعرف.. ويقوم بتنفيذه لأنه صادر من الله.. ولذلك فإن تنفيذ أي أمر إيماني يتم لأن الأمر صادر من الله.. وكل تكليف يأتي.. علة حدوثه هي الإيمان بالله.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يبدأ كل تكليف بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا}.. أي يا من آمنت بالله ربا وإلها وخالقا.. خذ عن الله وافعل لأنك آمنت بمن أمرك.
في هذه الآيات التي نحن بصددها أراد الله تعالى أن يبين لنا ذلك. فجاء بالأمر بذبح البقرة أولا.. وبالعلة في الآيات التي روت لنا علة القصة.. وأنت حين تعبد الله فكل ما تفعله هو طاعة لله سبحانه وتعالى.. سواء عرفت العلة أو لم تعرفها... هذا هو المفهوم الإيماني الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه في قصة بقرة بني إسرائيل.. ولذلك لم يأت بالعلة أو السبب أولا.. بل أتى بالقصة ثم أخبرنا سبحانه في آخرها عن السبب.. وسواء أخبرنا الله عن السبب أو لم يخبرنا فهذا لا يغير في إيماننا بحقيقة ما حدث.. وإن القصة لها حكمة وإن خفيت علينا فهي موجودة.
قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}.. أعطى الله تبارك وتعالى الأمر أولا ليختبر قوة إيمان بني إسرائيل.. ومدى قيامهم بتنفيذ التكليف دون تلكؤ أو تمهل.. ولكنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك أخذوا في المساومة والتباطؤ: {وإذ قال موسى لقومه}.. كلمة قوم تطلق على الرجال فقط.. ولذلك يقول القرآن الكريم:
{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن} (من الآية 11 سورة الحجرات).
قوله تعالى: {إن الله يأمركم}.. الأمر طلب فعل. وإذا كان الآمر أعلى من المأمور نسميه أمرا.. وإذا كان مساويا له نسميه التماسا.. وإذا كان إلى أعلى نسميه رجاء ودعاء..
{إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} لو أن إنسانا يعقل أدنى عقل ثم يطلب منه أن يذبح بقرة.. أهذه تحتاج إلى إيضاح؟ لو كانوا ذبحوا بقرة لكان كل شيء قد تم دون أي جهد.. فمادام الله قد طلب منهم أن يذبحوا بقرة.. فكل ما عليهم هو التنفيذ..
ولكن أنظر إلى الغباء حتى في السؤال.. إنهم يريدون أن يفعلوا أي شيء لإبطال التكليف.. لقد قالوا لموسى نبيهم إنك تهزأ بنا.. أي أنهم استنكروا أن يكلفهم الله تبارك وتعالى بذبح بقرة على إطلاقها دون تحديد.. فاتهموا موسى أنه يهزأ بهم.. كأنهم يرون أن المسألة صعبة على الله سبحانه وتعالى.. لا يمكن أن تحل بمجرد ذبح بقرة.. وعندما سمع موسى كلامهم ذهل.. فهل هناك نبي يهزأ بتكليف من تكليفات الله تبارك وتعالى.. أينقل نبي الله لهم أمرا من أوامر الله جل جلاله على سبيل الهزل؟
هنا عرف موسى أن هؤلاء اليهود هم جاهلون.. جاهلون بربهم وبرسولهم وجاهلون بآخرتهم.. وأنهم يحاولون أن يأخذوا كل شيء بمقاييسهم وليس بمقاييس الله سبحانه وتعالى.. فاتجه إلى السماء يستعيذ بالله من هؤلاء الجاهلين.. الذين يأتيهم اليسر فيريدونه عسرا. ويأتيهم السهل فيريدونه صعبا.. ويطلبون من الله أن يعنتهم وأن يشدد عليهم وأن يجعل كل شيء في حياتهم صعبا وشاقا.