ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم ، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما ، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة . . فقال - تعالى - : { وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } .
و " إذ " يبدو أنها هنا للتعليل . والاعتزال : تجنب الشئ سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب . و " ما " فى قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } اسم موصول فى محل نصب معطوف على الضمير فى قوله { اعتزلتموهم } وقوله : { إلا الله } استثناء متصل ، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله - تعالى - ويشكرون معه فى العبادة الأصنام . و " من " قالوا إنها بمعنى البدلية .
وقوله : { مرفقاً } من الارتفاق : بمعنى الانتفاع ، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا - بفتح الميم وكسر الفاء .
{ وإذ اعتزلتموهم } خطاب بعضهم لبعض . { وما يعبدون إلا الله } عطف على الضمير المنصوب ، أي وإذا اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله ، فإنهم كانوا يعبدون الله ويبعدون الأصنام كسائر المشركين . ويجوز أن تكون { ما } مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله ، وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضين بين { إذ } وجوابه لتحقيق اعتزالهم . { فأووا إلى الكهف ينشُر لكم ربكم } يبسط الرزق لكم ويوسع عليكم . { من رحمته } في الدارين . { ويهيّئ لكم من أمركم مِرفقاً } ما ترتفقون به أي تنتفعون ، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى ، وقرأ نافع وابن عامر { مرفقا } بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذاً كالمرجع والمحيض فإن قياسه الفتح .
وقولهم { وإذ اعتزلتموهم } الآية أن القيام في قوله { إذ قاموا } عزماً كما تضمن التأويل الواحد وكان القول منهم فيما بينهم فهذه المقالة يصح أن تكون من قولهم الذي قالوه عند قيامهم ، وإن كان القيام المذكور مقامهم بين يدي الملك فهذه المقالة لا يترتب أن تكون من مقالهم بين يدي الملك ، بل يكون في الكلام حذف تقديره وقال بعضهم لبعض ، وبهذا يترجح أن قوله تعالى : { إذ قاموا فقالوا } إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم ، وقوله { إلا الله } إن فرضنا الكفار الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ولا علم لهم به ، وإنما يعتقدون الألوهية في أصنامهم فقط ، فهو استثناء منقطع ليس من الأول ، وإن فرضناهم يعرفون الله ويعظمونه كما كانت تفعل العرب لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ، لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله تعالى ، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله » ، قال قتادة هذا تفسيرها ، قال هارون وفي بعض مصاحفه «وما يعبدون من دوننا » ، فعلى ما قال قتادة تكون { إلا } بمنزلة غير ، و { ما } من قوله { وما يعبدون } في موضع نصب عطفاً على الضمير في قوله { اعتزلتموهم } ، ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض إذ فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله تعالى فإنه سيبسط لنا رحمته وينشرها علينا ويهيىء لنا من أمرنا { مرفقاً } ، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة من الله كانوا في أمر آخرتهم ، وقرأ نافع وابن عامر «مَرفِقاً » بفتح الميم وكسر الفاء ، وهو مصدر كالرفق فيما حكى أبو زيد ، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق «مِرفَقاً » بكسر الميم وفتح الفاء ، ويقالان جميعاً في الأمر وفي الجارحة ، حكاه الزجاج ، وذكر مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون «المرفق » من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم ، وقال «المَرفق » بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما بعد لغتان .
يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة . وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد ، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعِواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر . ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضاً ، وهو ضرب من الالتفات . فعلى الوجه الأول يكون فعل { اعتزلتموهم } مستعملاً في إرادة الفعل مثل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] ، وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضاً . وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك ممّا لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص .
و إذ للظرفية المجازية بمعنى التعليل .
والاعتزال : التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء ، فمعنى اعتزال القوم ترك مخالطتهم . ومعنى اعتزال ما يعبدون : التباعد عن عبادة الأصنام .
والاستثناء في قوله : إلا الله } منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم .
والفاء للتفريع على جملة { وإذ اعتزلتموهم } باعتبار إفادتها معنى : اعتزلتم دينهم اعتزالاً اعتقادياً ، فيقدر بعدها جملة نحو : اعتزلوهم اعتزالَ مفارقة فأوُوا إلى الكهف ، أو يقدر : وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف . وجوز الفراء أن تضمن ( إذْ ) معنى الشرط ويكون { فأووا } جوابها . وعلى الشرط يتعين أن يكون { اعتزلتموهم } مستعملاً في إرادة الاعتزال .
والأوْيُ تقدم آنفاً ، أي فاسكنوا الكهف .
والتعريف في { الكهف } يجوز أن يكون تعريف العهد ، بأن كان الكهف معهوداً عندهم يتعبدون فيه من قبل . ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل { وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] ، أي فأووا إلى كهف من الكهوف . وعلى هذا الاحْتمال يكون إشارة منهم إلى سُنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات ، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك .
ونشر الرحمة : توفر تعلقها بالمرحومين . شبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في أنه لا يُبقي من الثوب شيئاً مخفياً ، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطيّ وبالقبض .
والمَرفق بفتح الميم وكسر الفاء : ما يرتفق به وينتفع . وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ، وبكسر الميم وفتح الفاء وبه قرأ الباقون .
وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية ، تشبيهاً بتهيئة القرى للضيف المعتنى به . وجزم { ينشر } في جواب الأمر . وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء . وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.