وقوله - سبحانه - { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته .
والرعد : اسم للصوت الهائل الذي يسمع إثر تفجير شحنة كهربية في طبقات الجو .
وعطف - سبحانه - الرعد على البرق والسحاب ، لأنه مقارن لهما في كثير من الأحوال . والتسبيح : مشتق من السبح وهو المرور السريع في الماء أو في الهواء وسمى الذاكر الله - تعالى - مسبحا ، لأنه مسرع في تنزيهه سبحانه عن كل نقص .
وتسبيح الرعد - وهو هذا الصوت الهائل - بحمد الله ، يجب أن نؤمن به ، ونفوض كيفيته إلى الله - تعالى - لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو - سبحانه - وقد بين لنا - سبحانه - في كتابه أن كل شئ يسبح بحمده فقال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وقد فصل القول في معنى هذه الجملة الكريمة الإِمام الآلوسى فقال - رحمه الله - ما ملخصه :
وقوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد } قيل هو اسم للصوت المعلوم ، والكلام على حذف مضاف أى : ويسبح سامعو الرعد بحمده - سبحانه - رجاء للمطر .
ثم قال : والذى اختاره أكثر المحدثين كون الإِسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، فقد أخرج أحمد والترمذى وصححه والنسائى وآخرون عن ابن عباس أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ فقال : " ملك من ملائكة الله - تعالى - موكّل بالسحاب ، بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله - تعالى - قالوا .
فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال صوته - قالوا : صدقت " .
ثم قال : واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره ، وقد نكر في سورة البقرة في قوله - تعالى - { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } وأجيب بأن له إطلاقين : ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت ، والتنكير على هذا الإطلاق . . .
والذى نراه أن تسبيح الرعد بحمد الله يجب الإِيمان به ، سواء أكان الرعد اسما لذلك الصوت المخصوص ؛ أم اسما لملك من الملائكة ، أما كيفية هذا التسبيح فمردها إلى الله .
قال الإِمام الشوكانى : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } أى يسبح الرعد نفسه بحمد الله . أى متلبسا بحمده ، وليس هذا بمستبعد ، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك .
وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك ، ويكون ذكره على الإِفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له . وعناية به
وقال الإِمام ابن كثير : قال الإِمام أحمد : حدثنا عفان . . عن سالم عن أبيه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق . . عن أبى هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد قال : " سبحان من يسبح الرعد بحمده " .
وقوله - سبحانه - { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } نوع رابع من الأدلة الدالة على وحدانية الله وقدرته . أى ويسبح الرعد بحمد الله ، ويسبح الملائكة - أيضا - بحمد الله ، خوفا منه - تعالى - وإجلالا لمقامه وذاته .
و { من } في قوله - تعالى { مِنْ خِيفَتِهِ } للتعليل ، أى : يسبحون لأجل الخوف منه . وقوله { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } نوع خامس من الظواهر الكونية الدالة على كما قدرته - سبحانه - .
والصواعق جمع صاعقة ، وهى - كما يقول ابن جرير - كل أمر هائل رآه الرائى أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل . . .
والمراد بها هنا : النار النازلة من السماء .
أى ويرسل - سبحانه - الصواعق المهلكة فيصيب بها من يشاء إصابته من خلقه .
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في رجل من طواغيت العرب ، بعث النبى - صلى الله عليه وسلم - نفرا يدعونه إلى الإِسلام ، فقال لهم : أخبرونى عن رب محمد ما هو ، أمن فضه أم من حديد ؟
فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة فأهلكت الكافر وهم جلوس .
رجعوا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فاستقبلهم بعض الصحابة فقالوا لهم : احترق صاحبكم ؟ فقالوا : من أين علمتم ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ }
وضمير الجماعة في قوله { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } يعود إلى أولئك الكافرين الذين سبق أن ساق القرآن بعض أقوالهم الباطلة ، والتى منها قولهم : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول .
والمراد بمجادلتهم في الله : تكذيبهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيما أمرهم به من وجوب إخلاص عبادتهم لله - تعالى - وإيمانهم بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب .
والمحال : الكيد والمكر ، والتدبير والقوة ، والعقاب . . يقال : محل فلان بفلان - بتثليث الحاء - محلا ومحالا ، إذا كاده وعرضه للهلاك .
قال القرطبى : قال ابن الأعرابى : المحال المكر وهو من الله - تعالى - التدبير بالحق أو إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر .
وقال الأزهرى : المحال : أى القوة والشدة .
وقال أبو عبيد : المحال : العقوبة والمكروه .
أى : أن هؤلاء الكافرين يجادلونك - أيها الرسول في ذات الله وفى صفاته ، وفى وحدانيته ، وفى شأن البعث ، وينكرون ما جئتهم به من بينات والحال أن الله - تعالى - { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }
{ ويسبّح الرعد } ويسبح سامعوه . { بحمده } ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله ، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال : " ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب " . { والملائكة من خيفته } من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل { الرعد } . { ويُرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } فيهلكه . { وهم يجادلون في الله } حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم ، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل ، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله ، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف ، فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية ، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، فنزلت . { وهو شديد المِحال } الممالحة المكايدة لأعدائه ، من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك ، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ، ولعل أصله المحل بمعنى القحط . وقيل فعال من المحل بمعنى القوة . وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ، ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم : فساعد الله أشد و موساه أحد .
و { الرعد } ملك يزجر { السحاب } بصوته ، وصوته - هذا المسموع - تسبيح - و { الرعد } اسم الملك : وقيل : «الرعد » اسم صوت الملك وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع «الرعد » قال :
«اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك »{[6935]} وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره : أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان من سبحت له وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع «الرعد » قال : «سبحان من سبح الرعد بحمده{[6936]} » وقال ابن أبي زكرياء : من قال - إذا سمع الرعد - سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة .
وقيل في الرعد أيضاً إنه ريح تختنق بين السحاب - روي ذلك عن ابن عباس في غير ما ديوان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فيه نظر ، لأنها نزعات الطبيعيين وغيرهم .
وروي أيضاً عن ابن عباس : أن الملك إذا غضب وزجر السحاب اصطدمت من خوفه فيكون البرق ، وتحتكّ فتكون الصواعق .
وقوله : { ويرسل الصواعق } الآية - قيل : إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك . وقال ابن جريج : كان سبب نزولها قصة أربد أخي لبيد بن ربيعة لأمِّة وعامر بن الطفيل ، وكان من أمرهما - فيما روي - أنهما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى أن يجعل الأمر بعده إلى عامر بن الطفيل ويدخلا في دينه - فأبى ، فقال عامر : فتكون أنت على أهل الوبر{[6937]} ، وأنا على أهل المدر - فأبى ، فقال له عامر : فماذا تعطيني ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أعطيك أعنة الخيل ، فإنك رجل فارس » ؛ فقال له عامر : والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً حتى آخذك ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يأبى الله ذلك وأبناء قيلة »{[6938]} ؛ فخرجا من عنده ، فقال أحدهما لصاحبه : لو قتلناه ما انتطح فيه عنزان ، فتآمر في الرجوع لذلك ، فقال عامر لأربد : أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف ؛ فجعل عامر يحدثه وأربد لا يصنع شيئاً ؛ فلما انصرفا قال له عامر : والله يا أربد لا خفتك أبداً ولقد كنت أخافك قبل هذا ، فقال له أربد : والله لقد أردت إخراج السيف فما قدرت على ذلك ، ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك ؟ فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه وسلم فأصابت أربد صاعقة فقتلته ، ففي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخوه :
أخشى على أربد الحتوف ولا***أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بال*** فارس يوم الكريهة النجد{[6935]}
وروي عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن جباراً من جبابرة العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال : أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أو من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه{[6936]} .
وقال مجاهد : إن بعض اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناظره ، فبينما هو كذلك إذ نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت الآية فيه .
وقوله : { وهم يجادلون في الله } يجوز أن تكون إشارة إلى جدال اليهودي المذكور ، وتكون الواو واو حال ؛ أو إلى جدال الجبار المذكور . ويجوز - إن كانت الآية على غير سبب - أن يكون قوله : { وهم يجادلون في الله } إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم ، الذين جلبت لهم هذه التنبيهات .
و { المحال } : القوة والإهلاك ، ومنه قول الأعشى : [ الخفيف ]
فرع نبع يهتز في غصن المج *** د عظيم الندى شديد المحال{[6941]}
لا يغلبن صليبهم***ومحالهم عدواً محالك{[6942]}
وقرأ الأعرج والضحاك «المَحال » بفتح الميم بمعنى المحالة ، وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة ، وهذا كالاستدراج والمكر ونحوه وهذه استعارات في ذكر الله تعالى ، والميم إذا كسرت أصلية ، وإذا فتحت زائدة ، ويقال : محل الرجل بالرجل إذا مكر به وأخذه بسعاية شديدة{[6943]} .