وكعادة القرآن فى المقارنة بين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، بعد الحديث عن سوء مصير الكافرين ، فقال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا . . . } .
والمعنى : إن الذين قالوا بكل صدق وإخلاص ربنا الله - تعالى - وحده ، لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته .
{ ثُمَّ استقاموا } أى : ثم ثبتوا على هذا القول ، وعملوا بما يقتضيه هذا القول من طاعة الله - تعالى - فى المنشط والمكره ، وفى العسر واليسر ، ومن اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فى كل أحواله .
قال صاحب الكشاف : و { ثم } لتراخى الاستقامة عن الإقرار فى المرتبة وفضلها عليه . لأن الاستقامة لها الشأن كله . ونحوه قوله - تعالى - : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته .
ولقد بين لنا النبى صلى الله عليه وسلم أن الاستقامة على أمر الله جماع الخيرات ، ففى صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفى قال : " قلت : يا رسول الله " قل لى فى الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك " قال : " قل آمنت بالله ثم استقم . . "
وقوله - تعالى - : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } بيان للآثار الطيبة التى تترتب على هذا القول المؤيد بالثبات على طاعة الله - تعالى - :
وتنزل الملائكة عليهم بهذه البشارات يشمل ما يكون فى حياتهم عن طريق إلهامهم بما يشرح صدورهم ، ويطمئن نفوسهم ، كما يشمل تبشيرهم بما يسرهم عند موتهم وعند بعثهم .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } قال مجاهد : عند موتهم وعن زيد بن أسلم : عند الموت ، وعند القبر ، وعند البعث ، وقيل : معنى { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ } يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإِلهام كما أن الكفرة يغريهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح .
والخوف : غم يلحق النفس لتوقع مكروه فى المستقبل .
والحزن : غم يلحقها لفوات نفع فى الماضى .
أى : إن الذين قالوا ربنا الله باعتقاد جازم ، ثم استقاموا على طاعته فى جميع الأحوال ، تتنزل عليهم من ربهم الملائكة ، لتقول لهم فى ساعة احتضارهم وعند مفارقتهم الدنيا ، وفى كل حال من أحوالهم : لا تخافوا - أيها المؤمنون الصادقون - مما أنتم قادمون عليه فى المستقبل ، ولا تحزنوا على ما فارقتموه من أموال أو أولاد .
{ وَأَبْشِرُواْ } عما قريب ، بالجنة التى كنت توعدون بها فى الدنيا .
{ إن الذين قالوا ربنا الله } اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته . { ثم استقاموا } في العمل و{ ثم } لتراخيه عن الإقرار في الرتبة من حيث إنه مبدأ الاستقامة ، أو لأنها عسر قلما تتبع الإقرار ، وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض فجزئياتها . { تتنزل عليهم الملائكة } فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن ، أو الخروج من القبر . { ألا تخافوا } ما تقدمون عليه . { ولا تحزنوا } على ما خلفتم وأن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة . { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } في الدنيا على لسان الرسل .
وقوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } آية وعد للمؤمنين ، قال سفيان بن عبد الله الثقفي ، قلت للنبي عليه السلام : أخبرني بأمر أعتصم به ، فقال :
«قل ربي الله ثم استقم ، » قلت فما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال : هذا{[10071]} .
واختلف الناس في مقتضى قوله : { ثم استقاموا } فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن معناه : استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي ، وتلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال : استقاموا والله لله بطاعته ، ولم يروغوا روغان الثعالب .
قال القاضي أبو محمد : ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على الأتم الأفضل ، وإلا فلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب ألا تنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى { ثم استقاموا } على قولهم : { ربنا الله } ، فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم . وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها فهو ممن استقام{[10072]} . المعنى فهو في أول درجات الاستقامة من الخلود ، فهذا كقوله عليه السلام : «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة »{[10073]} وهذا هو المعتقد إن شاء الله ، وذلك أن العصاة من أمة محمد عليه السلام وغيرها فرقتان : فأما من قضى الله بالمغفرة له وترك تعذيبه ، فلا محالة ممن تنزل عليه الملائكة بالبشارة ، وهو إنما استقام على توحيده فقط ، وأما من قضى الله بتعذيبه مرة ثم بإدخاله الجنة ، فلا محالة أنه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه ، وليس يصح أن يكون حاله كحالة الكافر اليائس من رحمة الله ، وإذ قد كان هذا فقد حصلت له بشارة بأن لا يخاف الخلود ولا يحزن منه وبأنه يصير آخراً إلى الخلود في الجنة ، وهل العصاة المؤمنون إلا تحت الوعد بالجنة ، فهم داخلون فيمن يقال لهم : { أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } ومع هذا كله فلا يختلف أن الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالاً وأكمل بشارة ، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعلى نحو ذلك قال سفيان : { استقاموا } ، عملوا بنحو ما قالوا ، وقال الربيع : أعرضوا عما سوى الله . وقال الفضيل : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية ، وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعداداً كان أسرع فوزاً بفضل الله تعالى .
وقوله تعالى : { ألا تخافوا ولا تحزنوا } أمنة عامة في كل هم مستأنف ، وتسلية تامة عن كل فائت ماض . وقال مجاهد : المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم . وفي قراءة ابن مسعود : «الملائكة لا تخافوا »{[10074]} بإسقاط الألف ، بمعنى يقولون لا تخافوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.