التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ} (14)

ثم بين - سبحانه - أن دعوته هي الدعوة الحق ، وما عداها فهو باطل ضائع فقال : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } أى : له وحده - سبحانه - الدعوة الحق المطابقة للواقع ، لأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، وهو الحقيق بالعبادة والالتجاء .

فإضافة الدعوة إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته ، وفى هذه الإِضافة إيذان بملابستها للحق ، واختصاصها به ، وأنها بمعزل عن الباطل .

ومعنى كونها له : أنه - سبحانه - شرعها وأمر بها .

قال الشوكانى : قوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة . أى : الدعوة الملابسة للحق ، المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه .

وقيل : الحق هو الله - تعالى - والمعنى : أنه لله - تعالى - دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب .

وقيل : المراد بدعوة الحق ها هنا كلمة التوحيد والإِخلاص والمعنى : لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له العبادة .

وقيل : دعوة الحق ، دعاؤه - سبحانه - عند الخوف ، فإنه لا يدعوى فيه سواه ، كما قال - تعالى - { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقيل : الدعوة الحق ، أى العبادة الحق فإن عبادة الله هي الحق والصدق .

ثم بين - سبحانه - حال - من يعبد غيره فقال : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } .

والمراد بالموصول { والذين } الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله .

والضمير في يدعون ، للمشركين ، ورابط الصلة ضمير نصب محذوف أى : يدعونهم .

والمعنى : لله - تعالى - العبادة الحق ، والتضرع الحق النافع ، أما الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون من غير الله . فإنها لا تجيبهم إلى شئ يطلبونه منها ، إلا كإجابة الماء لشخص بسط كفيه إليه من بعيد ، طالبا منه أن يبلغ فمه وما الماء ببالغ فم هذا الشخص الأحمق ، لأن الماء لا يحس ولا يسمع نداء من يناديه .

والمقصود من الجملة الكريمة نفى استجابة الأصنام لما يطلبه المشركون منها نفيا قاطعا ، حيث شبه - سبحانه - حال هذه الآلهة الباطلة عندما يطلب المشركون منها ما هم في حاجة إليه ، بحال إنسان عطشان ولكنه غبى أحمق لأنه يمد يده إلى الماء طالبا منه أن يصل إلى فمه دون أن يتحرك هو إليه . فلا يصل إليه شئ من الماء لأن الماء لا يسمع نداء من يناديه .

ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بليغ لخيبة وجهالة من يتوجه بالعبادة والدعاء لغير الله - تعالى - .

وأجرى - سبحانه - على الأصنام ضمير العقلاء في قوله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ } مجاراة للاستعمال الشائع عند المشركين ، لأنهم يعاملون الأصنام معاملة العقلاء .

ونكر شيئا في قوله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } للتحقير . والمراد أنهم لا يستجيبون لهم أية استجابة حتى ولو كانت شيئا تافها .

والاستثناء في قوله { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء . . . } من أعم الأحوال .

أى : لا يستجيب الأصنام لمن طلب منها شيئا ، إلا استجابة كاستجابة الماء لملهوف بسط كفيه إليه يطلب منه أن يدخل فمه ، والماء لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب طلبه ولو مكث على ذلك طوال حياته .

والضمير " هو " في قوله { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } للماء ، والهاء في " ببالغه " للفم : أى : وما الماء ببالغ فم هذا الباسط لكفيه .

وقيل الضمير " هو " للباسط ، والهاء للماء ، أى : وما الباسط لكفيه ببالغ الماء فمه .

قال القرطبى : " وفى معنى هذا المثل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه ، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا لأن الماء لا يستجيب ، وما الماء ببالغ إليه ، قاله مجاهد .

الثانى : أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، لكذب ظنه وفساد توهمه . قاله ابن عباس .

الثالث : أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه ، فلا يجد في كفه شيئا منه .

وقد ضربت العرب مثلا لمن سعى فيما لا يدركه ، بالقبض على الماء كما قال الشاعر :

ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض . . . على الماء ، خانته فروج الأصابع

وقوله - سبحانه - { وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أى : وما عبادة الكافرين للأصنام ، والتجاؤهم إليها في طلب الحاجات ، إلا في ضياع وخسران لأن هذه الآلهة الباطلة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ} (14)

{ له دعوة الحق } الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلىعبادته دون غيره ، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه ، ويؤيده ما بعده و{ الحق } على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال { دعوة } إليه لما بينهما من الملابسة ، أو على تأويل دعوة المدعو الحق . وقيل { الحق } هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق ، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم أو دلالة على أنه على الحق ، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء رسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، أو بيان ظلالهم وفساد رأيهم . { والذين يدعون } أي الأصنام الذين يدعوهم المشركون ، فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة . { من دونه } عليه . { لا يستجيبون لهم بشيء } من الطلبات . { إلا كباسط كفّيه } إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه . { إلى الماء ليبلُغ فاه } يطلب منه أن يبلغه . { وما هو ببالغه } لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم . وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه . وقرئ " تدعون " بالتاء وباسط بالتنوين . { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } في ضياع وخسار وباطل .