ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذى عقل سليم ، فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } .
وكلمة { وَكَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثير .
ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها وهى مبتدأ : وجملة { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } خبرها .
والربيون جمع ربى ، وهو العالم بربه ، الصادق فى إيمانه به ، الملخص له فى عبادته نسبة إلى الرب كالربانى .
قال القرطبى ما ملخصه : والربيون - بكسر الراء - قراءة الجمهور . وقرأها بعضهم بضم الراء وقرأها بعضهم بفتحها والربيون : الجماعة الكثيرة نسبة إلى الربة - بكسر الراء وضمها - وهى الجماعة . . ومنه يقال للخرقة التى تجمع فيها القداح : ربة . وربة والرباب : قبائل تجمعت .
وقال ابن عباس : ربيون - بفتح الراء - منسوب إلى الرب .
وقال الخليل : الربى - بكسر الراء - الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله - تعالى - . وقوله { فَمَا وَهَنُواْ } من الوهن وهو اضطراب نفسى ، وانزعاج قلبي ، يبتدىء من داخل الإنسان ، فإذا وصل إلى الخارج كان ضعفاً وتخاذلا .
والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } أى فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله .
وقوله { وَمَا ضَعُفُواْ } أى : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله { وَمَا استكانوا } أى ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان .
نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسى ، وهلع قلبى ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .
ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن .
ونفى عنهم - ثالثاً - الاستكانة وهى الرضا بالذل والخضوع للاعداء ليفعلوا بهم ما يريدون .
وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحداً منها يكفى نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم .
وجاء ترتيب هذه الأوصاف فى نهاية الدقة بحسب حصولها فى الخارج ، فإن الوهن الذى هو خور فى العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذى هو لون من الاستسلام والفشل .
ثم تكون بعدهما الاستكانة التى يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فى حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة .
وقوله { والله يُحِبُّ الصابرين } تذييل قصد به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله ورعايته كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء .
أى والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده .
{ وكأين } أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس . وقرأ ابن كثير " وكائن " ككاعن ووجهه أنه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم وعملي في لعمري ، فصار كأين ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفا كما أبدلت من طائي { من نبي } بيان له . { قاتل معه ربيون كثير } ربانيون علماء أتقياء ، أو عابدون لربهم . وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { قتل } ، وإسناده إلى { ربيون } أو ضمير النبي و{ معه ربيون } حال منه ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد وقرئ { ربيون } بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر . { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم . { وما ضعفوا } عن العدو أو في الدين . { وما استكانوا } وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده ، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له ، وهذا تعريف بما أصابهم عند الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام { والله يحب الصابرين } فينصرهم ويعظم قدرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.