التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

وقوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى . وأصل الدين فى اللغة الجزاء والحساب . يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه ، ومنه قولهم : كما تدين تدان أى ، كما تفعل تجازى ، وفي الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " والمراد به هنا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات ، فيكون بمعنى الملة والشرع .

أى : إن الشريعة المرضية عند الله - تعالى - هى الإسلام ، والإسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال : أسلم أى انقاد واستسلم . وأسلم أمره لله سلمه إليه والمراد به هنا - كما قال ابن جرير : " شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذى شرعه لنفسه وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به " وهو الدين الحنيف الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن كثير : وقوله - تعالى - { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } إخبار منه تعالى - بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله تعالى - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال - تعالى - { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ منه } الآية . وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } وقوله : { عِندَ الله } ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل ، أى الذى شرع عند الله الإسلام . ويصح أن يكون صفى للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإسلام . وفى إضافة الدين إلى الله - تعالى - بقوله { عِندَ الله } وباعتبار الإسلام وحده ، هو دين الله ، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين ، إشعار بفضل الإسلام ، لأن له ذلك الشرف الإضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه ، فهو دين الله الذى شرعه لخلقه .

ثم بين - سبحانه - أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغى والحسد وطلب الدنيا فقال - تعالى - { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } .

أى : وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذي لا باطل معه ، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سبه البغي والحسد والظلم فيما بينهم .

وفي التعبير عنهم بأنهم { أُوتُواْ الكتاب } زيادة تقبيح لهم ؛ فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش ، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم ، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا .

وقوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم ، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد .

والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات ، أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق ، والعلم بالحق وحده لا يكفي في الإيمان به ، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه ، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله ، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول . { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فهم قد اختلفوا في الحق مع عملهم بأنه حق ، لأن العلم كالمطر ، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية ، وكذلك لايستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية ، والقلوب الواعية ، والأفئدة المستقيمة .

وقوله { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول لأجله ، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغى لا لغيره قال القرطبي : " وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى ، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم " .

ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد فقال : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } . أى : ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته - سبحانه - فإن الله محص عليه أعماله في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة .

فقوله { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } قائم مقام جواب الشرط وعلة له ، أي : ومن يكفر بآيات الله فإنه - سبحانه - محاسبه ومعاقبه والله سريع الحساب .

وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب ، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو - سبحانه - لا يحتاج إى فحص وبحث ، لأنه لا تخفى عليه خافية .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

{ إن الدين عند الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام ، وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل من أنه بدل الكل أن فسر الإسلام بالإيمان ، أو بما يتضمنه وبدل اشتمال إن فسر بالشريعة . وقرئ أنه بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني ، واعتراض ما بينهما أو إجراء شهد مجرى قال تارة وعلم أخرى لتضمنه معناهما . { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى ، أو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقا ، أو في التوحيد فثلثت النصارى { وقالت اليهود عزير ابن الله } . وقيل هم قوم موسى اختلفوا بعده . وقيل هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه السلام . { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي بعد ما علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالآيات والحجج . { بغيا بينهم } حسدا بينهم وطلبا للرئاسة ، لا لشبهة وخفاء في الأمر . { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } وعيد لمن كفر منهم .