وبعد أن عرضت السورة الكريمة دلائل قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده أتبعت ذلك ببيان أنه - سبحانه - قد جعل لكم أمة شرعة ومنهاجا ، وأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يمضى فى طريقة لتبليغ رسالة الله - تعالى - دون أن يلتفت إلى ممارات المشركين له ، وأن يفوض الحكم فيهم إليه - سبحانه - فهو العليم بكل شىء ، فقال - تعالى - : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا . . . } .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ . . . } كلام مستأنف جىء به لزجر معاصريه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الأديان السماوية عن منازعته ، ببيان حال ما تمسكوا به من الشرائع ، وإظهار خطئهم .
والمراد الأمة هنا : القوم الذين يدينون بشريعة معينة . والمراد بالمنسك المنهج والشريعة التى يتبعونها فى عقيدتهم وفى معاملاتهم . . .
أى : شرعنا لكل أمة من الأمم السابقة منهجا يسيرون عليه فى اعتقادهم وفى طريقة حياتهم ، فالأمة التى وجدت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى - عليهما السلام - شريعتها التوراة ، والأمة التى وجدت من بعث عيسى حتى مبعث محمد - صلى الله - شريعتها الأنجيل ، والأمة التى وجدت منذ مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة شريعتها القرآن .
وعلى كل أمة أدركت بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تتبعه فيما جاء به من عند ربه ، لأن شريعته هى الشريعة الناسخة لما قبلها ، والمهيمنة عليها .
ويرى بعضهم أن المراد بالمنسك هنا : المكان الذى يذبحون فيه ذبائحهم تقربا إلى الله - تعالى - .
وقد رجح الإمام ابن جرير ذلك فقال ما ملخصه : وأصل المناسك فى كلام العرب : الموضع المعتاد الذى يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر . يقال : إن لفلان منسكا يعتاده ، يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر . وقد اختلف أهل التأويل فى معنى المنسك هنا ، فقيل : عيد ، وقيل : إراقة الدم . . . والصواب من القول فى ذلك أن يقال : عنى بذلك إراقة الدم أيام النحر بمنى ، لأن المناسك التى كان المشركون جادلوا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت إراقة الدم فى هذه الأيام . . . ولذلك قلنا : عنى بالمنسك فى هذا الموضع : الذبح . .
ويبدو لنا أن القول الأول ، وهو تفسير المنسك بالشريعة الخاصة أقرب إلى الصواب لشموله للذبح وغيره .
والضمير فى قوله : { هُمْ نَاسِكُوهُ } يعود لكل أمة .
أى : جعلنا لكل أمة شريعة تسير على تعاليمها ، وتنهج على نهجها . .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر } لترتيب النهى على ما قبلها .
والمنازعة : المجادلة والمخاصمة . والمراد بالأمر : ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه - تعالى - من تشريعات وأحكام .
أى : قد جعلنا لكل أمة من الأمم السابقة شريعة تتبع تعاليمها ، وما دام الأمر كذلك ، فاسلك أنت وأتباعك - أيها الرسول الكريم - الشريعة التى أوحيناها إليك ، وأمرناك باتباعها ، ولا تلتفت إلى مخاصمة من ينازعك فى ذلك من اليهود أو النصارى أو غيرهم ، فإن منازعتهم لك فيما جئت به من عند ربك ، يدل على جهلهم وسوء تفكيرهم ، لأن ما جئت به من عند ربك مصدق لشريعتهم ، ومهيمن عليها وناسخ لها .
ثم أرشده - سبحانه - إلى ما يجب عليه نحو دينه فقال : { وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } .
أى : وادع هؤلاء الذين ينازعونك فيما جئتهم به من الحق ، وأدع غيرهم معهم إلى ترك التنازع والتخاصم ، وإلى الدخول فى دين الإسلام : فإنك أنت على الصراط المستقيم ، الذى لا اعوجاج فيه ولا التباس .
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم{[20409]} منسكا .
قال ابن جرير : يعني : لكل أمة نبي منسكا . قال : وأصل المنسك في كلام العرب : هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ، ويتردد إليه ، إما لخير أو شر . قال : ولهذا سميت مناسك الحج بذلك ، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها{[20410]} .
فإن كان كما قال من أن المراد : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } فيكون المراد بقوله : { فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ } أي : هؤلاء المشركون . وإن كان المراد : " لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا - كما قال : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولهذا قال هاهنا : { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي : فاعلوه - فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، أي : هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ؛ ولهذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي : طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود .
وهذه كقوله : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص : 87 ] .
هذا متصل في المعنى بقوله : { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم } [ الحج : 34 ] الآية . وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله : { وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [ الحج : 3738 ] إلى هنا ، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله } [ الحج : 34 ] الآية ليبنى عليه قوله : { فلا ينازعنك في الأمر } . فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة ، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكاً واحداً يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد . وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى ، قال النّابغة : وما هُريق على الأنصاب من جَسَد ( أي دم ) . وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا } [ الحج : 34 ] كما تقدم آنفاً .
فالجملة استئناف . والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة .
والمنسَك بفتح الميم وفتح السين : اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم . وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان ، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان . والضمير في { ناسكوه } منصوب على نزع الخافض ، أي ناسكون فيه .
وفي « الموطأ » : « أن قريشاً كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، فقال الله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } الآية ، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه .
قال الباجي في « المنتقى » : « وهو قول ربيعة » . وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه ، أي نزلت في سنة تسع ، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة .
وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها ، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه من الحجج كافٍ في قطع منازعة معارضيه ، فالمعارضون هم المقصود بالنهي ، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل : فلا تترك لهم ما ينازعونك به ، وهو من باب قول العرب : لا أعْرِفَنّك تفعل كذا ، أي لا تَفْعل فأعرِفك ، فجعل المتكلم النهي موجهاً إلى نفسه ، والمراد نهي السامع عن أسبابه ، وهو نهي للغير بطريق الكناية .
وقال الزجاج : هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله ، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه . وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله . وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعدما سيق لهم من الحجج .
واسم { الأمر } هنا مجمل مراد به التوحيدُ بالقرينة ، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحَجّ الذي هو من مناسكهم ، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم ، فكان قوله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } كشفاً لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ ، وهو رمز التوحيد ، وأن ما عداه باطل طارىء عليه فلا ينازعُنّ في أمر الحجّ بعد هذا . وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله { وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } [ الحج : 72 ] ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مُقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ ، فيبعد تفسيرُ المنازعة بمنازعة أهل الكتاب .
وقوله { وادع إلى ربك } عطف على جملة { فلا ينازعنك في الأمر } . عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمرٌ بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المُكابرة تجافي الاقتناع ، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين ، وفي حذف مفعول { ادع } إيذان بالتعميم .
وجملة { إنك لعلى هدى مستقيم } تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك . و { على } مستعارة للتمكن من الهدى .
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية ؛ شبه الهُدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورُمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً ، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان . وفي هذا الخبر تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة .