ثم بين - سبحانه - أن مرجع العباد جميعا إليه ، وأنه سيجازي كل إنسان بما يستحق .
فقال - تعالى - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً } .
أى : إلى الله - تعالى - وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم ، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا ، ولن يخلف الله وعده .
قال أبو حيان : وانتصب { وَعْدَ الله } و { حَقّاً } على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير وعد الله وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل ، وذلك كقوله " صبغة الله " و " صنع الله " والتقدير في { حقا } : حق " ذلك حقا " .
وقوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } كالتعليل لما أفاده قوله - سبحانه - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } فإن غاية البدء والإِعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية .
أى : إن شأنه - سبحانه - أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من الإِعادة بعد الموت الموت فقال : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
والقسط - كما يقول الراغب - النصب بالعدل . يقال : قسط الرجل إذا جار وظلم .
ومنه قوله - تعالى - { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ويقال أقسط فلان إذا عدل ، ومنه قوله - تعالى - { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } والحميم : الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة ، قال - تعالى - { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي : فعل ما فعل سبحانهن من بدء الخلق وإعادتهم ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذي أعده لهم ، وأما الذين كفروا فيجزيهم - أيضاً - بعدله ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم ، ومن عذاب مؤلم لابدانهم ، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى .
وقوله : { بالقسط } حال من فاعل { ليجزي } ليجزيهم ملتبسا بالقسط .
ويصح أن يكون المعنى : فعل ما فعل ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم ، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم .
قال الجمل ما ملخصه : وقال - سبحانه - { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ . . . } بتغيير في الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب . وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإِعادة هو الإِثابة . والعذاب وقع بالعرض . وأنه - تعالى - يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم .
أخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة ، لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه . ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده ، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل والجزاء الأوفى ، { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العقاب ، من { سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } [ الواقعة : 42 ، 43 ] . { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ ص : 57 ، 58 ] . { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 43 ، 44 ] .
وقوله { إليه مرجعكم جميعاً } الآية ، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع ، وقوله { جميعاً } الآية ، حال من الضمير في { مرجعكم } ، { وعد الله } نصب على المصدر ، وكذلك قوله { حقاً } وقال أبو الفتح { حقاً } نعت ، وقرأ الجمهور «إنه » بكسر الألف على القطع والاستئناف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه » بفتح الألف ، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه ، وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير يحق أنه .
قال القاضي أبو محمد : يجوز عندي أن يكون { أنه } بدلاً من قوله { وعد الله } ، قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد . وإن شئت قدرته «وعد الله حقاً أنه » ولا يعمل فيه المصدر الذي هو { وعد الله } لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله{[6011]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «حقٌّ » بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه » وقوله { يبدأ الخلق } يريد النشأة الأولى ، والإعادة هي البعث من القبور ، وقرأ طلحة «يُبدِىء الخلق » بضم الياء وكسر الدال ، وقوله { ليجزي } هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال ، وقوله { بالقسط } أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم ، وقوله { والذين كفروا } ابتداء و «الحميم » الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش :
في كل يوم لها مقطرة *** وكباء معدة وحميم{[6012]}
وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه{[6013]} ، وهو كما وصفه تعالى { يشوي الوجوه }{[6014]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.