التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

أما الصفة الرابعة من صفات هؤلاء المتقين فقد ذكرها - سبحانه - فى قوله : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

والفاحشة من الفحش وهو مجاوزة الحد فى السوء . والمراد بها الفعلة البالغة فى القبح كالزنا والسرقة وما يشبههما من الكبائر .

والمعنى : سارعوا أيها المؤمنون إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدها خالقكم - عز وجل - للمتقين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم فى السراء والضراء ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عن الناس ، وأنهم إذا فعلوا فعلة فاحشة متناهية فى القبح ، أو ظلموا أنفسهم ، بارتكاب أى نوع من أنواع الذنوب " ذكروا الله " أى تذكروا حقه العظيم ، وعذابه الشديد ، وحسابه العسير للظالمين يوم القيامة " فاستغفروا لذنوبهم " أى طلبوا منه - سبحانه - المغفرة لذنوبهم التى ارتكبوها ، وتابوا إليه توبة صادقة نصوحا .

وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { والذين إِذَا فَعَلُواْ } معطوفا على الصفة الأولى من صفات المتقين ، ويكون قوله - تعالى - { والله يُحِبُّ المحسنين } جملة معترضة بين الصفات المتعاطفة .

قال الفخر الرازى : واعلم أن وجه النظم من وجهين :

الأول : أنه - تعالى - لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان :

أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات ، وهم الذين وصفهم بالانفاق فى السراء والضراء ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس .

وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله - تعالى - { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } وبين - سبحانه - أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى فى كونها متقية .

والوجه الثانى : أنه فى الآية الأولى ندب إلى الإحسان إلى الغير ، وندب فى هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس ، فإن الذنب إذا تاب كانت توبته إحسانا منه إلى نفسه " .

وقوله { أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } معطوف على { فَعَلُواْ فَاحِشَةً } من باب عطف العام على الخاص ، وهذا على تفسير الفاحشة بأنها كبائر الذنوب ، أما ظلم النفس فيتناول كل ذنب سواء أكان صغيرا أم كبيراً .

وبعضهم يرى أن الفاحشة وظلم النفس وجهان للمعصية لا ينفصلان عنها ، بمعنى أن كل معصية لا تخلو منهما فهى فاحشة وظلم للنفس ، وعلى هذا تكون " أو " بمعنى الواو .

ويكون المعنى : ومن يرتكب فاحشة ويظلم نفسه ، ويتذكر الله عند ارتكابها فيعود إليه تائباً منيبا يكون من المتقين .

وفى التعبير بقوله : { إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله } بصيغة الشرط الجواب ، إشعار بوجوب اقتران الجواب بالشرط . أى أن الشخص الذى يدخل فى جملة المتقين هو الذاى يعود إلى ربه تائبا فور وقوع المعصية ، بحيث لا يسوف ولا يؤخر التوبة حتى إذا حصره الموت .

قال : إنى تبت الآن .

وقوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } جملة معترضة بين قوله { فاستغفروا } وبين قوله { وَلَمْ يُصِرُّواْ } .

والاستفهام فى قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } للإنكار والنفى .

أى : لا أحد يقبل توبة التائبين ، ويغفر ذنوب المذنبين ، ويمسح خطايا المخطئين ، إلا الله العلى الكبير " الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ، ويتوب الله على من تاب " - كما جاء فى الحديث الشريف - ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الجملة ما ملخصه : فى هذه الجملة وصف لذاته - تعالى - بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه . وفيها تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى أنه وحده عنده مصححات المغفرة ، وهذه جملة معترضة بين المعطوف ، والمعطوف عليه " .

وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } بيان لشروط الاستغفار المقبول عند الله - تعالى - .

أى أن من صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، سارعوا بالتوبة إلى الله - تعالى - ، ولم يصروا على الفعل القبيح الذى فعلوه ، وهم عالمون بقبحه ، بل يندمون على ما فعلوا ، ويستغفرون الله - تعالى - مما فعلوا ، ويتوبن إليه توبة صادقة .

وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } معطوف على قوله { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } .

وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية من فاعل " يصروا " أى ولم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه .

ومفعول يعلمون محذوف للعمل به أى يعلمون سوء فعلهم ، أو يعلمون أن الله يتوب على من تاب ، أو يعلمون عظم غضب الله على المذنبين الذين يداومون على فعل القبائح دون أن يتوبوا إليه .

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام المذنبين ، وحرضتهم على ولوجه بعزيمة صادقة ، وقلب سليم ، ولم تكتف بذلك بل بشرتهم بأنهم متى أقلعوا عن ذنوبهم ، وندموا على ما فعلوا ، وعاهدوا الله على عدم العودة على ما ارتكبوه من خطايا ، وردوا المظالم إلى أهلها ، فإن الله - تعالى - يغفر لهم ما فرط منهم ، ويحشرهم فى زمرة عباده المتقين .

إنه - سبحانه - لا يغلق فى وجه عبده الضعيف المخطىء باب التوبة ، ولا يلقيه حئرا منبوذا فى ظلام المتاهات ، ولا يدعه مطرودا خائفا من المصير ، وإنما يطمعه فى مغفرته - سبحانه - ويرشده إلى أسبابها ، ويغريه بمباشرة هذه الأسباب حتى ينجو من العقاب .

ولقد ساق - سبحانه - فى عشرات الآيات ما يبشر التائبين الصادقين فى توبتهم بمغفرته ورحمته ورضوانه ، ومن ذلك قوله - تعالى - :

{ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } وقد وردت أحاديث كثيرة فى هذا المعنى ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذى عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة " .

وقال القرطبى : وأخرج الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه " .

وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم " .

ثم قال القرطبى : " والذنوب التى يتاب منها إما كفر أو غيره ، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره ، وغير الكفر إما حق الله - تعالى - وإما حق لغيره ؛ فحق الله - تعالى - يكفى فى التوبة منه الترك ، غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك ، بل أضاف إلى ذلك فى بعضها قضاء كالصلاة والصوم . ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث فى الإيمان والظهار وغير ذلك وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها ، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم ، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول ، وفضله مبذول ، فكم ضمن من التبعات ، وبدل من السيئات بالحسنات " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي : إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار .

قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هَمّام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلا أذنب ذَنْبًا ، فقال : رب{[5733]} إني أذنبت ذنبا فاغفره . فقال الله [ عز وجل ]{[5734]} عبدي عمل ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب ، إني عملت ذنبا فاغفره . فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي . ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي . فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ{[5735]} فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَبْدِي عَلِمَ{[5736]} أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ " .

أخرجه{[5737]} في الصحيح من حديث إسحاق{[5738]} بن أبي طلحة ، بنحوه{[5739]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو الْمُدِلَّة - مولى أم المؤمنين - سمع أبا هريرة ، قلنا : يا رسول الله ، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا ، وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد ، فقال{[5740]} لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ لَهُمْ " . قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : " لَبِنَةُ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الإمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح{[5741]} لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " .

ورواه الترمذي ، وابن ماجة ، من وجه آخر من سعد ، به{[5742]} .

ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل :

حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، وسفيان - هو الثوري - عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن{[5743]} الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : كنت إذا

سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا{[5744]} نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه [ غيري استَحْلفْتُه ، فإذا حلف لي صَدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني ]{[5745]} وصدَق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ - الوُضُوءَ - قال مِسْعر : فَيُصَلّي . وقال سفيان : ثم يُصلِّي ركعتين - فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا غَفَرَ لَهُ " .

كذا{[5746]} رواه علي بن المَديني ، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن ، وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني ، من طرق ، عن عثمان بن المغيرة ، به . وقال الترمذي : هو حديث حسن{[5747]} وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق ، [ رضي الله عنه ]{[5748]} وبالجملة فهو حديث حسن ، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[5749]} عن خليفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[5750]} أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما{[5751]} ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ - أو : فَيُسْبِغَ - الوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ " {[5752]} .

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه توضأ لهم وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " {[5753]} .

فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين ، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين .

وقد قال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : بلغني أن إبليس حين نزلت : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية ، بَكَى{[5754]} .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُحْرِز بن عَون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور ، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فأكْثرُوا مِنْهُمَا ، فإنَّ إبْليسَ قَالَ : أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ ، وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ " .

عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان{[5755]} .

وروى الإمام أحمد في مسنده ، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قَالَ إبْلِيسُ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [ عِبَاَدكَ ] {[5756]} ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ . فَقَالَ اللهُ : وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي " {[5757]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثني ، حدثنا عُمر بن أبي خليفة ، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله{[5758]} ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ " . [ قال : فإني أستغفر ، ثم أعود فأُذْنِب . قال{[5759]} فَإذا{[5760]} أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ ]{[5761]} " فقالها في الرابعة فقال : " اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ " {[5762]} .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه{[5763]} .

وقوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي : لا يغفرها أحد سواه ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا محمد بن مُصْعَب ، حدثنا سلام بن مسكين ، والمبارك ، عن الحسن ، عن الأسود بن سَرِيع ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال : اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ " {[5764]} .

وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : تابوا من ذنوبهم ، ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه ، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه اللهُ ، في مسنده :

حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً " .

ورواه أبو داود ، والترمذي ، والْبَزَّار في مسنده ، من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين - به وشيخه أبو نصيرة {[5765]} الواسطي واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، فالظاهر إنما [ هو ]{[5766]} لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر ؛ لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى [ أبي بكر ]{[5767]} الصديق ، فهو حديث حسن{[5768]} والله أعلم .

وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه .

وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] وكقوله{[5769]} { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] ونظائر هذا كثيرة جدا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا جرير ، حدثنا حبان - هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ - عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - وهو على المنبر - : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .

تفرد به أحمد ، رحمه الله{[5770]} .


[5733]:في جـ: "يا رب".
[5734]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5735]:في جـ: فاغفره لي".
[5736]:في جـ: "علم عبدي".
[5737]:في جـ، ر، أ، و: "أخرجاه".
[5738]:في جـ: "إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة".
[5739]:المسند (2/296) وصحيح البخاري رقم (5707) ورواه مسلم في صحيحة برقم (2758) من طريق إسحاق بن عبد الله، به.
[5740]:في ج: "قال".
[5741]:في جـ، ر: "ويفتح".
[5742]:المسند (2/304، 305) وسنن الترمذي برقم (3598)، وسنن ابن ماجة برقم (1752).
[5743]:في ر: "بنت".
[5744]:في جـ: "سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[5745]:زيادة من جـ، والمسند.
[5746]:في جـ، ر، أ، و: "وهكذا".
[5747]:المسند (1/2، 10) وسنن ابن ماجة برقم (1395) ومسند الحميدي برقم (4) ومصنف ابن أبي شيبة (2/387) ومسند البزار برقم (8) والعلل للدارقطني برقم (8) وقد توسع الدارقطني في الكلام عليه.
[5748]:زيادة من و.
[5749]:زيادة من و.
[5750]:زيادة من جـ، أ، و.
[5751]:في أ، و: "عنه".
[5752]:صحيح مسلم برقم (234).
[5753]:صحيح البخاري برقم (159، 164، 1934) وصحيح مسلم برقم (226، 232).
[5754]:تفسير عبد الرزاق (1/137) وتفسير الطبري (7/220) وليس فيها أنس بن مالك.
[5755]:مسند أبي يعلى (1/124) قال الهيثمي في المجمع (10/207): "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".
[5756]:عن المسند، وفي جـ، ر، أ: "أغويهم".
[5757]:المسند (3/76).
[5758]:في جـ، ر: "يا رسول الله إني".
[5759]:في جـ، ر: "فقال".
[5760]:في أ، و: "إذا".
[5761]:زيادة من جـ، ر، ومسند البزار.
[5762]:مسند البزار برقم (3249) "كشف الأستار".
[5763]:ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (7090) من طريق عمر بن أبي خليفة به. وقال الهيثمي في المجمع (10/201): "رواه البزار وفيه بشارة بن الحكم الضبي ضعفه غير واحد. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وبقية رجاله وثقوا".
[5764]:المسند (3/345).
[5765]:في جـ: "أبو بصيرة"، وفي ر: "أبو نصر".
[5766]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5767]:زيادة من جـ، أ.
[5768]:مسند أبي يعلى (1/124) وسنن أبي داود برقم (1514) وسنن الترمذي برقم (3559) ومسند البزار برقم (93).
[5769]:في أ: "قوله".
[5770]:المسند (2/165).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً دون الصنف الأول ، فألحقهم بهم برحمته ومنه ، فهؤلاء هم التوابون ، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل ، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية{[3544]} ، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له »{[3545]} ، وقوله { والذين } عطف جملة ناس على جملة أخرى ، وليس { الذين } بنعت كرر معه واو العطف ، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش ، و «الفاحشة » هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه ، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وهو لفظ يعم جميع المعاصي ، وقد كثر اختصاصه بالزنا ، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا ، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة ، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم ، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر ، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر ، و { ذكروا الله } معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه ، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه ، و { استغفروا } معناه : طلبوا الغفران ، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم » ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } ، اعتراضاً مرققا للنفس ، داعياً إلى الله ، مرجياً في عفوه ، إذا رجع إليه ، وجاء اسم { الله } مرفوعاً بعد الاستثناء والكلام موجب ، حملاً على المعنى ، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله ، وقوله تعالى : { ولم يصروا } الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر ، وترك الإقلاع عنه ، ومنه صر الدنانير ، أي الربط عليها ، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي : «علم الله أنها مني صرى » .

يريد : عزيمة . فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب ، ومنه قول النبي عليه السلام :< لا توبة مع إصرار>{[3546]} ، وقال أيضاً :< ما أصر من استغفر>{[3547]} ، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار ، فقال قتادة : هو الذي مضى قدماً في الذنب لا تنهاه مخافة الله . وقال الحسن ، إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب ، وقال مجاهد : { لم يصروا } معناه : لم يمضوا وقال السدي : «الإصرار » هو ترك الاستغفار ، والسكوت عنه مع الذنب{[3548]} ، وقوله تعالى : { وهم يعلمون } قال السدي : معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا ، وقال ابن إسحاق : معناه ، وهم يعلمون بما حرمت عليهم ، وقال آخرون : معناه ، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل : المعنى ، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار .


[3544]:- أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير- عن ثابت البناني (فتح القدير للشوكاني 1/349).
[3545]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، وابن المنذري، وابن أبي حاتم، وابن السني، والبيهقي في "الشعب"، والضياء في "المختارة" عن أبي بكر الصديق (فتح القدير للشوكاني 1/350).
[3546]:- وأخرج الديلمي في الفردوس عن ابن عباس قال: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار)، وهو ضعيف. (الجامع الصغير 2/ 647).
[3547]:- أخرجه أبو داود، والترمذي عن أبي بكر "وهو ضعيف" (الجامع الصغير 2/417.
[3548]:- مما ذكر في "الإصرار" قول الشاعر: يصر بالليل ما تخفى شواكله يا ويح كل مصر القلب ختّار