ثم فتح - سبحانه - أمام هؤلاء المخلفين من الأعراب باب التوبة ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الجهاد معه ، فإن صدقوا أفلحوا ، وإن أعرضوا خسروا فقال : { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المخلفين من الأعراب عن الخروج معك ، ستدعون فى المستقبل إلى القتال معى لقوم أصحاب قوة وشدة فى الحرب ، فيكون بينكم وبينهم أمران لا ثالث لهما : إما قتالكم لهم ، وإما الإِسلام منهم .
" فأو " فى قوله { أَوْ يُسْلِمُونَ } للتنويع والحصر . وجملة { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } مستأنفة للتعليل ، كما فى قوله : سيدعوك الأمير للقائه يكرمك أو يخزى عدوك .
وقد اختلف المفسرون فى المراد بهؤلاء القوم أولى البأس الشديد ، فمنهم من قال : فارس والروم ، ومنهم من قال : بنو حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب .
والذى عليه المحققون من العلماء أن المقصود بهم : هوزان وثقيف الذين التفى بهم المسلمون فى غزوة حنين بعد فتح مكة .
وذلك لأن عددا كبيرا من تلك القبائل المتخلفة قد اشتركت فى تلك الغزوة ، حتى لقد بلغ عدد المسلمين فيها ما يقرب من اثنى عشر ألفا ، ولأن أهل هوزان وثقيف قد كانوا يجيدون الرماية والكر والفر ، فاستطاعوا فى أول المعركة - بعد أن اغتر المسلمون بقوتهم - أن يفرقوا بعض صفوف المسلمين ، ثم تجمع المسلمون بعد ذلك وانتصر عليهم ، ثم كانت النتيجة أن انتهت تلك الغزوة بإسلام هوزان وثقيف . كما هو معروف فى كتب السيرة .
ولقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان بين المسلمين وبين هوزان وثقيف من قتال فى قوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقد رجح فضيلة شيخنا الدكتور أحمد السيد الكومى أن يكون المقصود بالقوم أولى البأس الشديد هوزان وثقيف ، فقال ما ملخصه : وتكاد تنفق كتب السيرة على أن الجيش الذى ذهب لفتح مكة ، ثم ذهب بعد ذلك إلى غزوة هوزان وثقيف يوم حنين ، كان يضم بين جوانحه العدد الكثير من قبائل أسلم وأشجع وجهينة وغفار ومزينة .
وإذن فالأمر المحقق أن القبائل المتخلفة يوم الحديبية ، ساهمت فى الجهاد بقسط وافر يوم . فتح مكة ، ويوم حنين .
وقد أقام المسلمون بمكة بعد أن فتحوها - بدون قتال يذكر - خمسة عشر يوما . . ثم ذهبوا لقتال هوزان وثقيف . . . وكانوا رماة مهرة ذوى مهارة حربية ، وراية بفنون القتال فهمزموا المسلمين فى أول الأمر ، ثم هزمهم المسلمون .
ومن كل ذلك يرجح الحكم بأن هؤلاء القوم هم هوزان ، وأن كثيرا من المخلفين أسلم إسلاما خالصا ، وحسنت توبته . . .
وقوله - سبحانه - : { فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } بيان للثواب العظيم الذى أعده - سبحانه - للطائفين ، وللعذاب الأليم الذى توعد به الفاسقين .
أى : فإن تطعيوا - أيها المخالفون - رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يؤتكم الله من فضله أجرا حسنا ، وإن تتولوا وتعرضوا عن الطاعة ، كما أعرضتم من قبل فى صلح الحديبية عن طاعته ، يعذبكم - سبحانه - عذابا أليما .
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم ، الذين هم أولو بأس شديد ، على أقوال :
أحدها : أنهم هوازن . رواه شعبة عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة{[26846]} ، أو جميعا - ورواه هُشيم عن أبي بشر ، عنهما . وبه يقول قتادة في رواية عنه .
الثالث : بنو حنيفة ، قاله جويبر . ورواه محمد بن إسحاق ، عن الزهري . وروي مثله عن سعيد وعكرمة .
الرابع : هم أهل فارس . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه يقول عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة - في إحدى الروايات عنه .
وقال كعب الأحبار : هم الروم . وعن ابن أبي ليلى ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة : هم فارس والروم . وعن مجاهد : هم أهل الأوثان . وعنه أيضا : هم رجال أولو بأس شديد ، ولم يعين فرقة . وبه يقول ابن جريج ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري ، عن مَعْمَر{[26847]} ، عن الزهري ، في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : لم يأت أولئك بعد .
وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي خالد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : هم البارزون .
قال : وحدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ، ذلف الآنف ، كأن وجوههم المجانّ المطرقة " . قال سفيان : هم الترك {[26848]} .
قال ابن أبي عمر : وجدت في مكان{[26849]} آخر : ابن أبي خالد عن أبيه قال : نزل علينا أبو هريرة ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر " قال : هم البارزون ، يعني الأكراد{[26850]} .
وقوله : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } يعني : يشرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم ، ولكم النصرة عليهم ، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار .
ثم قال : { فَإِنْ تُطِيعُوا } أي : تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه ، { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يعني : زمن الحديبية ، حيث دعيتم{[26851]} فتخلفتم ، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم سيؤمرون بقتال عدو بئيس ، وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، وإلا فلم يكونوا أهلاً لهذا الأمر ، واختلف الناس من القوم المشار إليهم في قوله : { إلى قوم أولي بأس شديد } فقال عكرمة وابن جبير وقتادة : هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين .
قال القاضي أبو محمد : ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب في فتح مكة .
وقال كعب : هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة . وقال الزهري والكلبي : هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة .
وقال منذر بن سعيد : يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، يريد لما كشف الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة . وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم ، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا . وقال ابن عباس وابن أبي ليلى : هم الفرس . وقال الحسن : هم فارس والروم . وقال أبو هريرة : هم قوم لم يأتوا بعد ، والقولان الأولان حسنان ، لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف . وقال منذر بن سعيد : رفع الله في هذه الجزية ، وليس إلا القتال أو الإسلام ، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة .
قال القاضي أبو محمد : وهو من حورب في فتح مكة . وقرأ الجمهور من القراء : «أو يسلمون » على القطع ، أي أو هم يسلمون دون حرب . وقرأ أبيّ بن كعب فيما حكى الكسائي : «أو يسلموا » بنصب الفعل على تقدير : أو يكون أن يسلموا ، ومثله من الشعر قول امرئ القيس : [ الطويل ]
فقلت له لا تبك عيناك إنما . . . نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا{[10417]}
يروى : «نموتَ » بالنصب . و «نموتُ » بالرفع ، فالنصب على تقدير : أو يكون أن نموت ، والرفع على القطع ، أو نحن نموت .
وقوله : { فإن تطيعوا } معناه : فيما تدعون إليه ، والعذاب الذي توعدهم : يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا ، وأما عذاب الآخرة فبين فيه .