ثم بين - سبحانه - ما جبل عليه الإنسان من تسرع وتعجل فقال : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } .
والعجَل : طلب الشىء وتحريه قبل أوانه ، وهو ضد البطء .
والمعنى : خلق جنس الإنسان مجبولا على العجلة والتسرع فتراه يستعجل حدوث الأشياء قبل وقتها المحدد لها ، مع أن ذلك قد يؤدى إلى ضرره .
فالمراد من الآية الكريمة وصف الإنسان بالمبالغة فى تعجل الأمور قبل وقتها ، حتى لكأنه مخلوق من نفس التعجل . والعرب تقول : فلان خلق من كذا ، يعنون بذلك المبالغة فى اتصاف هذا الإنسان بما وصف به ، ومنه قولهم خلق فلان من كرم ، وخلقت فلانة من الجمال .
وقوله : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } تهديد وزجر لأولئك الكافرين الذين كانوا يستعجلون العذاب .
أى : سأريكم عقابى وانتقامى منكم - أيها المشركون - فلا تتعجلوا ذلك فإنه آت لا ريب فيه .
قال ابن كثير : والحكمة فى ذكر عجلة الإنسان هنا : أنه - سبحانه - لما ذكر المستهزئين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقع فى النفوس سرعة الانتقام منهم . فقال - سبحانه - : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } لأنه - تعالى - يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، ويُنْظِر ثم لا يؤخر ، ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } أى : نقمى واقتدارى على من عصانى { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } .
وقال الآلوسى : " والنهى عن استعجالهم إياه - تعالى - مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ، ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق . لأنه - سبحانه - أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ، ويرجع هذا النهى إلى الأمر بالصبر " .
وقوله : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَكَانَ{[19628]} الإنْسَانُ عَجُولا } [ الإسراء : 11 ] أي : في الأمور .
قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار ، من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم يبلغ{[19629]} أسفله قال : يا رب ، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي - وقبض أصابعه قَلَّلَها{[19630]} - فسأل الله خيرًا ، إلا أعطاه إياه " . قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة ، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، وهي التي خلق الله فيها آدم ، قال الله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } {[19631]} .
والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول ، صلوات الله [ وسلامه ]{[19632]} عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت{[19633]} ، فقال الله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ؛ ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } أي : نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني ، { فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } .
{ خلق الإنسان من عجل } كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك : خلق زيد من الكرم ، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل : إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد . روي أنها نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب . { سأريكم آياتي نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار . { فلا تستعجلون } بالإتيان بها ، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها .
جملة { خُلِق الإنسان من عَجَل } معترضة بين جملة { وإذا رآك الذين كفروا } [ الأنبياء : 36 ] وبين جملة { سأُريكم آياتي } ، جعلت مقدمة لجملة { سَأُريكم آياتي } . أمّا جملة { سَأُريكم آياتي } فهي معترضة بين جملة { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخِذونك إلاّ هزُؤاً } [ الأنبياء : 36 ] وبين جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ الأنبياء : 38 ] ، لأن قوله تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً } [ الأنبياء : 36 ] يثير في نفوس المسلمين تساؤلاً عن مدى إمهال المشركين ، فكان قوله تعالى : { سأريكم آياتي فلا تستعجلون } استئنافاً بيانياً جاء معترضاً بين الجُمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها . فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين .
ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم يُهيج حنق المسلمين عليهم فيوَدُّوا أن ينزِل بالمكذبين الوعيد عاجلاً فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين . وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام . والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيداً للثانية .
والعَجَل : السرعة . وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية . شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية . فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة . ونحوه قوله تعالى : { وكان الإنسان عَجولاً } [ الإسراء : 11 ] وقوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ] . ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه . وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد .
وجملة { سأُريكم آياتي } هي المقصود من الاعتراض . وهي مستأنفة .
والمعنى : وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين ، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أيمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين .
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل ، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله ، ولكل أجل كتاب . فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد .
وحذفت ياء المتكلم من كلمة { تستعجلونِ } تخفيفاً مع بقاء حركتها فإذا وُقف عليه حذفت الحركة من النوننِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.