ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } روايات منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : " بينما أنا أمشى مع النبى صلى الله عليه وسلم فى حرث وهو متوكئ على عسيب - أى على عصا - إذ مر اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقالوا : يا محمد ما لروح فأمسك النبى صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامى ، فلما نزل الوحى قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي . . . } .
قال الإِمام ابن كثير بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها : وهذا السياق يقتضى فيما يظهر بادى الرأى ، أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية .
وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو أنه نزل عليه الوحى بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهى هذه الآية : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح . . . } " .
ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما أخرجه الإِمام أحمد عن ابن عباس قال : " قالت قريش ليهود . أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل ؟ فقالوا : سلوه عن الروح ، فسألوه فنزلت : ويسألونك عن الروح . . الآية " .
وكلمة الروح تطلق فى القرآن الكريم على أمور منها :
الوحى ، كما فى قوله - تعالى - : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ . . . } ومنها : القوة والثبات كما فى قوله - تعالى - : { أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ . . . } ومنها : جبريل ، كما فى قوله - تعالى - : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين . . . } ومنها : القرآن كما فى قوله - سبحانه - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا . . . } ومنها : عيسى ابن مريم ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ . . . } وجمهور العلماء على أن المراد بالروح فى قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح . . . } ما يحيا به بدن الإِنسان ، وبه تكون حياته ، وبمفارقته للجسد يموت الإِنسان ، وأن السؤال إنما هو عن حقيقة الروح ، إذ معرفة حقيقة الشئ . تسبق معرفة أحواله .
وقيل المراد بالروح هنا : القرآن الكريم ، وقيل : جبريل ، وقيل : عيسى إلى غير ذلك من الأقوال التى أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرة أقوال .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، أولى بالاتباع ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } يؤيد هذا الاتجاه .
قال الآلوسى : " الظاهر عند المنصف ، أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذى هو مدار البدن الإِنسانى ، ومبدأ حياته ، لأن ذلك من أدق الأمور التى لا يسع أحدًا إنكارها ، ويشرئب الجميع إلى معرفتها ، وتتوافر دواعى العقلاء إليها ، وَتَكِلُّ الأذهان عنها ، ولا تكاد تعلم إلا بوحى . . " .
و { من } فى قوله : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } بيانية . والمراد بالأمر هنا . الشأن .
والمعنى : ويسألك بعض الناس - أيها الرسول - عن حقيقة الروح ، قل لهم على سبيل الإِرشاد والزجر : الروح شئ من جنس الأشياء التى استأثر الله - تعالى - وحده بعلم حقيقتها وجوهرها .
وقال - سبحانه - : { قل الروح } بالإِظهار ، لكمال العناية بشأن المسئول عنه .
وإضافة كلمة { أمر } إلى لفظ الرب - عز وجل - ، من باب الاختصاص العلمى ، إذ الرب وحده هو العليم بشأنها ، وليس من باب الاختصاص الوجودى ، لأن الروح وغيرها من مخلوقات الله - تعالى - .
وفى هذه الإِضافة ما فيها من تشريف المضاف ، حيث أضيف هذا الأمر إلى الله - تعالى - وحده .
قال القرطبى : وقوله - تعالى - { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } دليل على خلق الروح ، أى : هو أمر عظيم ، وشأن كبير من أمر الله - تعالى - ، مبهمًا له وتاركًا تفصيله ، ليعرف الإِنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها . وإذا كان الإِنسان فى معرفة نفسه هكذا ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى . وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز .
وقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } من جملة الجواب الذى أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد به على السائلين عن حقيقة الروح .
أى : وما أوتيتم - أيها السائلون عن الروح - من العلم إلا علمًا قليلاً ، بالنسبة إلى علمه - تعالى - الذى وسع كل شئ ، ولا يخفى عليه شئ .
وإن علمكم مهما كثر فإنه لا يمكنه أن يتعلق بحقيقة الروح وأحوالها ، لأن ذلك شئ استأثر الله - تعالى - به وحده ، واقتضت حكمته - عز وجل - أن يجعله فوق مستوى عقولكم .
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية : والمنهج الذى سار عليه القرآن - وهو المنهج الأقوم - أن يجيب الناس عما هم فى حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشرى بلوغه ومعرفته ، فلا يبدد الطاقة العقلية التى وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفى غير مجالها الذى تملك وسائله ، وبعضهم عندما سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الروح ، أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمره- سبحانه - . . .
وليس فى هذا حجر على العقل البشرى أن يعمل ، ولكن فيه توجيهًا لهذا العقل أن يعمل فى حدوده ، وفى مجاله الذى يدركه .
والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه . . ولقد أبدع الإِنسان فى هذه الأرض ما أبدع ، ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف - الروح - لا يدرى ما هو ؟ ولا كيف جاء ؟ ولا كيف يذهب ؟ ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما يخبر به العليم الخبير فى التنزيل " .
وقال بعض العلماء : وفى هذه الآية ما يزجر الخائضين فى شأن الروح ، المتكلفين لبيان ماهيته ، وإيضاح حقيقته ، أبلغ زجر ، ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال فى هذا البحث ، بما لا يتسع له المقام ، وغالبه ، بل كله من الفضول الذى لا يأتى بنفع فى دين أو دنيا . .
فقد استأثر الله - تعالى - بعلم الروح ، ولم يطلع عليه أنبياءه ، ولم يأذن لهم بالسؤال عنه ، ولا البحث عن حقيقته ، فضلاً عن أممهم المقتدين بهم . . . .
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عَسِيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح . فقال بعضهم : لا تسألوه . قال : فسألوه عن الروح فقالوا{[17811]} يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئًا على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه .
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به{[17812]} . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال : بينا أنا مع النبي{[17813]} صلى الله عليه وسلم في حَرْث ، وهو متوكئ{[17814]} على عسيب ، إذ مر اليهود{[17815]} فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم{[17816]} إليه . وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه . فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئًا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : { وَيَسْأَلُونَكَ{[17817]} عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } الآية{[17818]} .
وهذا السياق يقتضي{[17819]} فيما يظهر بادي الرأي : أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا : بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد :
حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فسألوه ، فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } قالوا : أوتينا علمًا كثيرًا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا . قال : وأنزل الله : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ]{[17820]} .
وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال : سأل أهلُ الكتاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فقالوا يزعم{[17821]} أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } ؟ [ البقرة : 269 ] قال : فنزلت : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان : 27 ] . قال : ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل{[17822]} .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود . وقالوا يا محمد ، ألم
يبلغنا عنك أنك تقول : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أفَعَنَيْتَنَا أم عنيت قومك ؟ فقال : " كلا قد عنيت " . قالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم " ، وأنزل الله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال :
أحدها : أن المراد [ بالروح ]{[17823]} : أرواح بني آدم .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن{[17824]} الروح ؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يُحِرْ إليهم شيئًا . فأتاه جبريل فقال له : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا ؟ فقال : " جاءني به جبريل من عند الله ؟ " فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدو لنا . فأنزل الله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ]{[17825]} } الآية [ البقرة : 97 ] .
وقيل : المراد بالروح هاهنا : جبريل . قاله قتادة ، قال : وكان ابن عباس يكتمه .
وقيل : المراد به هاهنا : ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها . قال{[17826]} علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } يقول : الروح : ملك .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عُرْس{[17827]} المصري ، حدثنا وهب بن رزق أبو هريرة{[17828]} حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لله ملكًا ، لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين{[17829]} بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت " {[17830]} .
وقال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو نِمْران يزيد بن سَمُرَة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } قال : هو مَلَك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها [ سبعون ]{[17831]} ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة{[17832]} .
وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم .
وقال السهيلي : روي عن عليّ أنه قال : هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة .
قال السهيلي : وقيل المراد بذلك : طائفة من الملائكة على صور بني آدم .
وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم{[17833]} فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم .
وقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ؛ ولهذا قال : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أي : وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى .
والمعنى : أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى . وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر : أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي : شرب منه بمنقاره ، فقال : يا موسى ، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر . أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا }
وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت . وقيل : أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من شرعه ، أي : فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع . وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم .
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر . وقررّ أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء . قال : كما أن الماء هو حياة الشجر ، ثم يكسب{[17834]} بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مُصْطَارًا أو خمرًا ، ولا يقال له : " ماء " حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس : " روح " إلا على هذا النحو ، وكذلك لا يقال للروح : نفس{[17835]} إلا باعتبار ما تئول إليه . فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه{[17836]} وهذا معنى حسن ، والله أعلم .
قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبًا . ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في : الروح{[17837]} .
{ ويسألونك عن الروح } الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره . { قل الروح من أمر ربي } من الإبداعيات الكائنة ب { كن } من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده ، أو وجد بأمره وحدث بتكوينه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه . وقيل مما استأثر الله بعلمه . لما روي : أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة . وقيل الروح جبريل وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن ، ومن أمر ربي معناه من وحيه . { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } تستفيدونه بتوسط حواسكم ، فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية . إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ، ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علماً . ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئا من أحواله المعروفة لذاته ، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به ، فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب : وما رب العالمين بذكر بعض صفاته . روي : أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك قالوا : أنحن مختصون بهذا الخطاب ؟ فقال : بل نحن وأنتم ، فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } وساعة تقول هذا فنزلت { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } وما قالوه لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده ، وهو بالإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه كثيرا .
الضمير في { يسألونك } قيل هو لليهود وإن الآية مدنية ، وروى عبد الله بن مسعود ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر على حرث بالمدينة ، ويروى على خرب ، وإذا فيه جماعة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، ولا يطلع عليه أحداً من عباده ، قال ابن مسعود : وقال بعضهم : لا تسألوه لئلا يأتي في بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته ، قال فسألوه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عسيب فظننت أنه يوحى إليه ، ثم تلا عليهم الآية{[7687]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقيل الآية مكية والضمير لقريش ، وذلك أنهم قالوا : نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود ، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، فقال اليهود لهما : جرباه بثلاث مسائل ، سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب ، وإن سكت عن الروح فهو نبي ، فسألته قريش عن الروح ، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم «غداً أخبركم به » ، ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوماً ، معاتبة على وعده لهم دون استثناء ، ثم نزلت هذه الآية{[7688]} .
واختلف الناس في { الروح } المسؤول عن أي روح هو ؟ فقالت فرقة هي الجمهور : وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي ؟ ف { الروح } اسم جنس على هذا ، وهذا هو الصواب ، وهو المشكل الذي لا تفسير له ، وقال قتادة { الروح } المسؤول عنه جبريل ، قال وكان ابن عباس يكتمه ، وقالت فرقة عيسى ابن مريم ، وقال علي بن أبي طالب : «ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة » ، ذكره الطبري ، وما أظن هذا القول يصح عن علي ، وقالت فرقة { الروح } القرآن ، وهذه كلها أقوال مفسرة ، والأول أظهرها وأصوبها ، وقوله { من أمر ربي } يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون «الأمر » اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها ، فهي إضافة خلق إلى خالق ، والثاني أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمراً بالكون فكان . وقرأ ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا » ، ورواها ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الجمهور «وما أوتيتم » ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط ، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود ، وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم ، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ، وقالت فرقة : العالم كله ، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له { قل الروح } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل ، ويحتمل أيضاً أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جداً ، كما قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام ، «ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر » ، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر ، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه ، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور ، أي إما لا ينقص علمنا شيئاً من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص ، إذ نقصه غير محسوس ، فكأنه معدوم ، فهذا احتمال ، ولكن فيه نظر ، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلاً ؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث «كلاًّ » يعني أن المراد ب { أوتيتم } جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أو قومك ؟ فقال «كلاًّ »{[7689]} ، وفي هذا المعنى نزلت
{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام }{[7690]} ، حكى ذلك الطبري رحمه الله .
وقْعُ هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمُه أن مرجع ضمير { يسألونك } هو مرجع الضمائر المتقدمة ، فالسائلون عن الروح هم قريش . وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل عنه ، فقالوا : سَلوه عن الروح ، قال : فسألوه عن الروح ، فأنزل الله تعالى : { ويسألونك عن الروح } الآية .
وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم . وحينئذٍ فلا إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية . وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسبباً على نزولها بين نزول تلك الآيات .
واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة . وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده ، كما كان بين أمية بن خلف وسَعْد بن معاذ . وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من « صحيح البخاري » .
روى ابن إسحاق أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي مُعيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما : سلوه عن ثلاثة . وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف ، فسألتْه قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف ، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة .
وهذه الرواية تثير إشكالاً في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف .
ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفرداً أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة .
ويجوز أن تكون آية سؤال الروح مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف . والجمهور على أن الجميع نزل بمكة ، قال الطبري عن عطاء بن يسار : نزل قوله : { وما أوتيتم من العلم قليلاً } بمكة .
وأما ما روي في « صحيح البخاري » عن ابن مسعود أنه قال : « بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح ، فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئاً ، فعلمتُ أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : { ويسألونك عن الروح } الآية . فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم : أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشاً ، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشاً سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير .
هذا ، والذي يترجح عندي : أن فيما ذكره أهلُ السير تخليطاً ، وأن قريشاً استقوا من اليهود شيئاً ومن النصارى شيئاً فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام ، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى ، بناءً على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف ، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الإسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم ، فتعين أن اليهود ما لَقنوا قريشاً إلا السؤال عن الروح . وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف . على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس .
وسُؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوا عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالّة فيه .
والروح : يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير ، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنيناً بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوماً . وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] . وهذا يسمى أيضاً بالنفس كقوله : { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] .
ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقوله : { وروح منه } [ النساء : 171 ] .
ويطلق لفظ ( الروح ) على المَلك الذي ينزل بالوحي على الرسل . وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ] .
واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة . فالجمهور قالوا : المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول ، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته ، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالاً عن معنى مصطلح قرآني . وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول وروح الله يرف على وجه المياه . وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم .
وعن قتادة والحسن : أنهم سألوا عن جبريل ، والأصح القول الأول . وفي « الروض الأنف » أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم مرة ، فقال لهم : هو جبريل عليه السلام . وقد أوضحناه في سورة الكهف .
وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها ، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين ، لظهور أن في الجسد الحي شيئاً زائداً على الجسم ، به يكون الإنسان مدركاً وبزواله يصير الجسم مسلوبَ الإرادة والإدراك ، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئاً زائداً على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئاً من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة .
وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع ، أجيبوا بأن الروح من أمر الله ، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعلمه . فلفظ { أمر } يحتمل أن يكون مرادف الشيء . فالمعنى : الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله ، فإضافة { أمر } إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص ، أي أمر اختص بالله اختصاص علممٍ .
و ( من ) للتبعيض ، فيكون هذا الإطلاق كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] . ويحتمل أن يكون الأمر أمرَ التكوين ، فإما أن يراد نفس المصدر وتكون ( من ) ابتدائية كما في قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] ، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه ؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و ( من ) تبعيضية ، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المرادُ بالروح جبريلَ عليه السلام ، أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي ، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جواباً عن سؤالهم .
وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال : لم يأته في ذلك جواب ا ه . أي أن قوله : { قل الروح من أمر ربي } ليس جواباً ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بأن هذا من العلم الذي لم يؤتوه . والاحتمالات كلها مرادة ، وهي كلمة جامعة . وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفاً بالجنس وهو رسم .
وجملة { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } يجوز أن تكون مما أمَر الله رسولَه أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم ، ويجوز أن يكون تذييلاً أو اعتراضاً فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب ، والمخاطبون متفاوتون في القليل المستثنى من المؤْتَى من العلم . وأن يكون خطاباً للمسلمين .
والمراد بالعلم هنا المعلوم ، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله . ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق .
وفي « جامع الترمذي » قالوا ( أي اليهود ) : « أوتينا علماً كثيراً التوراةَ ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فأنزلت : { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } الآية [ الكهف : 109 ] .
وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ، أفعنيتنا أم قومَك ؟ قال : كُلاّ قد عنيت .
قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء . فقال رسول الله : هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم . فأنزل الله { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } [ لقمان : 27 ] .
هذا ، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي ، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم وكلها لا تعدو أن تكون رسوماً خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان .
وإذا قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصُرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم ، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير ، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعداداً لتجلي بعض ماهية الروح ، فلذلك لا نجاري الذين قالوا : إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة . فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في « العواصم » ، والنووي في « شرح مسلم » : أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون . فقال جمهور المتكلمين : إنها من الجواهر المجردة ، وهو غير بعيد عن قول بعضهم : هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس . وقال قدماء الفلاسفة : هي قديمة . وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم . ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى . فقيل : الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها ، وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين ، وقيل : تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب .