ثم أضاف - سبحانه - أسباباً أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } .
الفراش : ما يفترشه الإِنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام . أي : اجعلوا عبادتكم لله الذي صير الأرض لأجلكم مهاداً كالبساط المفروش ، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة ، لكي يتهيأ لكم الاستقرار عليها . والتقلب في مناكبها ، والانتفاع بما أودع الله في باطنها من خيرات .
وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها .
{ والسماء بِنَآءً } يقال لسقف البيت بناء أي : جعل السماء كالسقف للأرض ، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين ، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء . قال بعض الأدباء : " إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإِنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه ، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه " فهذه جملة واضحة داله على أن العالم مخلوق بتدبير كامل ، وتقدير شامل ، وحكمة بالغة ، وقدرة غير متناهية " .
ثم قال - تعالى - { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } :
السماء : السحاب ، والثمرات : ما ينتجه الشجر . والرزق : ما يصلح لأن ينتفع به . والباء في . ( به ) للسببية . أي : أنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرة ، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب .
وأورد { مَآءً } و { رِزْقاً } في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة ، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء ، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات . فمعنى الجملة الكريمة : أنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم .
ثم قال - تعالى - { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
الأنداد : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه .
وأصله من : ند البعير يند ندا ونداداً ونداً ، إذا تفرد وذهب على وجهه شارداً .
والمعنى : فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة ، وتعتقدون فيها النفع والضر ، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده ، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً مساوية له تعالى { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : وأنتم من ذوي العلم والنظر ، فلو تأملتم أدنى تأمل لا نصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده .
ولتركتم الإِشراك به . وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق ، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده .
وسمي القرآن الشركاء المزعومين أنداداً تهكماً بالعابدين لها ، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة ، قادرة على مخالفته ومضادته ، وذلك معنى جعلها أنداداً الذي هو مصب النهي في الآية .
وجملة { وأنتم تعلمون } ، حالية ، ومفعول تعلمون متروك ، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقد فنزل منزلة اللازم ، وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله ، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح ، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً ، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإِنكار . كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله ، فإن من كان من ذوي العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له ، وهذا لون جليل من ألوان التربية ، فإن من سمات المربى الناجح أن يجمع بين القسوة في النهي عن القبيح ، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس ، لأن الإِنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه خارت عزيمته ، وفترت همته .
هذا ، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تدعو إلى توحيد الله ، وتنهى عن الإِشراك ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ " قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " " .
قال الإِمام ابن كثير : وهذه الآية دالة على توحيده - تعالى - بالعبادة وحده لا شريك له ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانتها وطباعها ومنافعها ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الله - تعالى - ؟ فقال : يا سبحانه الله ! ! إن البعر ليدل على البعير ؛ وإن أثر القدم يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير .
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده ، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة ، بأن جعل لهم الأرض فراشا ، أي : مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقًا لهم ولأنعامهم ، كما قرر هذا في غير موضع{[1339]} من القرآن . ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا{[1340]} وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 64 ] ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار ، وساكنيها ، ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : «أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك » الحديث{[1341]} . وكذا حديث معاذ :
" أتدري ما حق الله على عباده ؟ أن يعبدوه لا{[1342]} يشركوا به شيئًا " الحديث{[1343]} وفي الحديث الآخر : «لا يقولن أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل{[1344]} ما شاء الله ، ثم شاء فلان " {[1345]} .
وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش ، عن الطفيل بن سَخْبَرَة ، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها ، قال : رأيت فيما يرى النائم ، كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عُزَير ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . قال : ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى . قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : «هل أخبرت بها أحدًا » فقلت : نعم . فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده " . هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، به{[1346]} . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ، عن عبد الملك بن عمير به ، بنحوه{[1347]} .
وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت . فقال : «أجعلتني لله ندا{[1348]} ؟ قل : ما شاء الله وحده » . رواه ابن مردويه ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس ، عن الأجلح ، به{[1349]} .
وهذا كله صيانة ، وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين ، أي : وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .
وبه عن ابن عباس : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه
الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وهكذا قال قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي عمرو ، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله ، عز وجل{[1350]} { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ]{[1351]} } قال : الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئتَ ، وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها " فلان " . هذا{[1352]} كله به شرك .
وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : «أجعلتني لله ندا » . وفي الحديث الآخر : «نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تنددون ، تقولون : ما شاء الله ، وشاء فلان » .
قال{[1353]} أبو العالية : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسُّدي ، وأبو مالك : وإسماعيل بن أبي خالد .
وقال مجاهد : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال : تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .
ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة :
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يُعَد من البُدَلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله عز وجل ، أمر يحيى بن زكريا ، عليه السلام ، بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكان يبطئ بها ، فقال له عيسى ، عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي » . قال : «فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله{[1354]} لا تشركوا به شيئًا ، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته{[1355]} إلى غير سيده فأيكم يسره{[1356]} أن يكون عبده كذلك ؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب{[1357]} من ريح المسك . وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي{[1358]} ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وأمركم بذكر الله كثيرًا ؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله » .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم » . قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى{[1359]} ؟ فقال : " وإن صلى وصام{[1360]} وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم{[1361]} الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله " {[1362]} .
هذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : " وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا " .
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال : وهي دالة على ذلك بطريق الأولى ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله ، إن البعرة لتدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟
وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات ، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ! ! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه .
وعن الشافعي : أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد .
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة .
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك
فيا عجبًا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
وقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 27 ، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا .
{ الذي جعل لكم الأرض فراشا } صفة ثانية أو مدح منصوب ، أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار ، وطفق فلا يتعدى كقوله :
فقد جعلت قلوص بني سهيل *** من الأكوار مرتعها قريب
وبمعنى أوجد فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } وبمعنى صير ، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : { جعل لكم الأرض فراشا } والتصيير يكون بالفعل تارة ، وبالقول أو العقد أخرى . ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا ظاهرا عن الماء ، مع ما في طبعه من الإحاطة بها ، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة ، لأن كرية شكلها مع عظم حجمها . واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها .
{ والسماء بناء } قبة مضروبة عليكم . والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم ، وقيل جمع سماءة . والبناء مصدر ، سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء ، ومنه بني على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا .
{ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } عطف على ( جعل ) ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال ، صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا ، وسكونا إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة ، و{ من } الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء ، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر . أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحابا ماطرا . و{ من } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فأخرجنا به ثمرات } واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقا كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ، ولا جعل كل المرزوق ثمارا . أو للتبيين ، ورزقا مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفا . وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيده قراءة من قرأ : " من الثمرة " على التوحيد . أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون } وقوله : { ثلاثة قروء } . أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة . و{ لكم } صفة رزقا إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقا إياكم .
{ فلا تجعلوا لله أندادا } متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه . أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له . أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فاطلع في قوله تعالى : { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع } إلحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة ، والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا ، أو بالذي جعل ، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا ، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به . والند : المثل المناوئ ، قال جرير :
أتيما تجعلون إلي ندا *** وما تيم لذي حسب نديد
من ند يند ندودا : إذا نفر ، وناددت الرجل خالفته ، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر ، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله ( أندادا ) ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند . ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :
أربا واحدا أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا *** كذلك يفعل الرجل البصير
{ وأنتم تعلمون } حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح ، أي وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي ، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات ، متعال عن مشابهة المخلوقات . أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب ، لا تقييد الحكم وقصره عليه ، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف .
واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، والنهي عن الإشراك به تعالى ، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى . وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس ، فإن الثمرة أعم من المطعوم ، والرزق أعم من المأكول والمشروب . ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى رتب تعالى ، عليها النهي عن الإشراك به ، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة ، مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام ، الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل ، فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية ، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار ، فإن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حد مطلعا .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
وقوله تعالى : { الذي جعل } نصب على إتباع( {[324]} ) الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع .
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب { تتقون } فضعيف .
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و { فراشاً } معناه تفترشونها( {[325]} ) وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و { السماء } قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات » ، وقيل هو جمع واحده «سماوة » ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء ، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء » ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »( {[326]} ) ، واللفظة من السمو وتصاريفه .
وقوله تعالى : { بناء } تشبيه بما يفهم( {[327]} ) ، كما قال تعالى : { والسماء بنيناها بأييد }( {[328]} ) [ الذاريات : 47 ] .
وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة » .
وقوله : { وأنزل من السماء } يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] .
إذا نزل السماء بأرض قوم . . . رعيناه وإن كانوا غضابا( {[329]} )
فتجوز أيضاً في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً ، وأصل { ماء } موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق( {[330]} ) ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزقه ، وواحد الأنداد ند( {[331]} ) ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما .
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر .
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية ؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين : فقوله على هذا : { وأنتم تعلمون }( {[332]} ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار( {[333]} ) ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له .
وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين » فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد( {[334]} ) . وهذه الآية تعطي( {[335]} ) أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره