التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

وقوله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } أى : ليس لك من أمر الناس شىء ، وإنما أمرهم إلى الله وحده ، أما أنت فوظيفتك التبليغ والإرشاد ، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .

وقوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . أى مما هم فيه من الكفر فيهديهم إلى الإسلام بعد كفرهم وظلالهم .

وقوله { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أى أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة على كفرهم واجتراحهم للسيئات ، فإنهم بذلك يكونون مستحقين للعقاب ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فهم الذين صموا آذانهم عن الحق واستحبوا العمى على الهدى .

وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطفات ويكون تقدير الآيتين هكذا :

ولقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل والأسر ، ا يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة بسبب ظلمهم ، وليس لك من أمرهم شىء ، إنما أنت رسول ن عند الله - تعالى - مأمور بإنذارهم وجهادهم .

وقد رجح هذا الوجه صاحب الكشاف فقال : وقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } اعتراض . والمعنى أن الله مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، وليس لك من أمرهم شىء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . .

وقيل إن { أَوْ } بمعنى " إلا أن " كقولك : لألزمنك أو تقضينى حقى ، على معنى ليس لك من أمرهم شىء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم .

فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد بينتا أحوال الكافرين فى غزوة بدر أكمل بيان ، لأن فريقاً منهم قد قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتوا وذلوا ، وفريقا من الله عليهم بالإسلام فأسلموا ، وفريقاً عذبوا بالموت على الكفر أو عذبوا فى الدنيا بالذل والصغار .

و " أو " التى جىء بها بين هذه الجمل للتقسيم .

هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } روايات منها ما أخرجه مسلم عن أنس " أن النبى صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج فى وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبهم وهو يدعوهم إلى ربهم - عز وجل - فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } " .

ومنها ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرا أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده : " اللهم ربنا ولك الحمد . اللهم أنج الوليد بن الوليد . وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " يجهر بذلك . وكان يقول فى بعض صلاته فى صلاة الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من العرب " حتى أنزل الله - تعالى - : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

ثم اعترض بجملة دَلَّت على أنّ الحُكْم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له ، فقال : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : بل الأمر كلّه إلي ، كما قال : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وقال { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] . وقال { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] .

قال محمد بن إسحاق في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم .

ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ؛ ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي : يستحقون ذلك .

وقال البخاري : حدثنا حِبّان بن مُوسى ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، حدثني سالم ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر{[5650]} اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا " بعد ما يقول : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله تعالى{[5651]} { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5652]} } .

وهكذا رواه النسائي ، من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق ، كلاهما ، عن مَعْمَر{[5653]} ، به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو عقيل - قال أحمد : وهو عبد الله بن عقيل ، صالح الحديث ثقة - قال : حدثنا عُمَر بن حمزة ، عن سالم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم العن فلانا ، اللهم العن الحارث بن هِشامِ ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو ، اللهم العن صَفْوانَ بْنَ أُمَيَّةَ " . فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فَتِيبَ عليهم كلّهم{[5654]} .

وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية الغَلابي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عجْلان ، عن نافع ، عن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة قال : فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5655]} } قال : وهداهم الله للإسلام{[5656]} .

وقال محمد بن عَجْلان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم ، حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية .

وقال البخاري أيضًا : حَدّثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سَعْد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب ، وأبي سلمة بن{[5657]} عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يَدْعو على أحد - أو يدعو لأحد - قَنَتَ بعد الركوع ، وربما قال - إذا قال : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد - : " اللَّهُمَّ انْجِ الْوَلِيد بن الوليدِ ، وسَلَمَة بْنَ هشَامٍ ، وعَيَّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ " . يجهر بذلك ، وكان يقول - في بعض صلاته في صلاة الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من أحياء العرب ، حتى أنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية{[5658]} .

وقال البخاري : قال حُمَيْد وثابت ، عن أنس بن مالك : شُجّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُد ، فقال : " كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ؟ " . فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } وقد أسند هذا الحديث الذي عَلَّقه البخاري رحمه الله{[5659]} .

وقال البخاري : في غزوة أُحُد : حدثنا يحيى بن عَبْد الله السلمي ، حدثنا عبد الله - أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، حَدّثَني سالم بن عبد الله ، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع ، في الركعة الأخيرة من الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا وَفُلانًا " بعد ما يقول : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد " . فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } [ إلى قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } ] {[5660]} .

وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوانَ بن أمَيّة ، وسُهَيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ]{[5661]} فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }{[5662]} .

هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة مسندة متصلة في مسند أحمد متصلة آنفا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ ، وشُجَّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، عز وجل " . فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }

انفرد به مسلم ، فرواه{[5663]} [ عن ]{[5664]} القعنبي ، عن حَمّاد ، عن ثابت ، عن أنس ، فذكره{[5665]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : " كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ " فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5666]} } .

وكذا رواه عبدُ الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، بنحوه ، ولم يقل : فأفاق{[5667]} .


[5650]:في جـ، ر، أ: "من الفجر يقول".
[5651]:في أ: "عز وجل".
[5652]:زيادة من جـ، ر، وفي هـ: "الآية".
[5653]:صحيح البخاري برقم (4069، 4559، 7346) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11075)
[5654]:المسند (2/93).
[5655]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
[5656]:المسند (2/104).
[5657]:في جـ، ر: "عن".
[5658]:صحيح البخاري برقم (4560).
[5659]:صحيح البخاري (7/365) "فتح"، وسيأتي حديث حميد موصولا عن أحمد. أما حديث ثابت فقد وصله مسلم برقم (1791).
[5660]:زيادة من جـ، ر، ، وفي هـ: "الآية".
[5661]:في جـ، ر: "إلى قوله".
[5662]:صحيح البخاري برقم (4069).
[5663]:في جـ: "ورواه".
[5664]:زيادة من ر.
[5665]:المسند (3/99) وصحيح مسلم برقم (1791).
[5666]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[5667]:تفسير الطبري (7/197، 198) وتفسير عبد الرزاق (2/135).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

{ ليس لك من الأمر شيء } اعتراض . { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } عطف على قوله أو يكبتهم ، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء ، وإنما أنت عبد مأمور لإنذارهم وجهادهم . ويحتمل أن يكون معطوفا على الأمر أو شيء بإضمار أن ، أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء . أو ليس لك من أمرهم شيء . أو التوبة عليهم أو تعذيبهم . وأن تكون أو بمعنى إلا أن . أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتشفي منهم . روي ( أن عتبة بن أبي وقاص شجه يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ) فنزلت . وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن . { فإنهم ظالمون } قد استحقوا التعذيب بظلمهم .