ثم صور - سبحانه - انكبابهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، تصويرا بليغا فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ } .
والأغلال : جمع غل - بضم الغين ، وهو القيد الذى تشد به اليد إلى العنق بقصد التعذيب والأذقان : جمع ذقن - بفتح الذال - وهو أسفل الفم .
ومقمحون : من الإِقماح ، وهو رفع الرأس مع غض البصر . يقال : قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب . والفاء فى قوله { فهى } وفى قوله { فهم } : للتقريع .
أى : إنا جعلنا فى أعناق هؤلاء الجاحدين قيودا عظيمة ، فهى - أى هذه القيود - واصلة إلى أذقانهم ، فهم بسبب ذلك مرفوعة رءوسهم ، مع غض أبصارهم ، بحيث لا يستطيعون أن يخفضوها ، لان القيود التى وصلت إلى أذقانهم منعتهم من خفض رءوسهم .
فقد شبه - سبحانه - فى هذه الآية ، حال أولئك الكافرين ، المصرين على جحودهم وعنادهم ، بحال من وضعت الأغلال فى عنقه ووصلت إلى ذقنه ، ووجه الشبه أن كليهما لا يستطيع الانفكاك عما هو فيه .
يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غل ، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسُه ، فصار مقمَحا ؛ ولهذا قال : { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } والمقمح : هو الرافع رأسه ، كما قالت أم زَرْع في كلامها : " وأشرب فأتقمَّح " أي : أشرب فأروى ، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّيا . واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين ، وإن كانتا مرادتين ، كما قال الشاعر{[24665]} :
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا *** أريد الخَيْرَ أيّهما يَليني
أالْخَيْرُ الذي أنَا أبْتَغيه *** أم الشَّرّ الذي لا يَأتَليني
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لَمّا دل السياق والكلام عليه ، {[24666]} وكذا هذا ، لما كان الغُلّ إنما يعرف فيما جَمَع اليدين مع العنق ، اكتفى بذكر العنق عن اليدين .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال : هو كقول الله{[24667]} تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] يعني بذلك : أن أيديهم موثقة{[24668]} إلى أعناقهم ، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير .
وقال مجاهد : { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال : رافعو{[24669]} رؤوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم ، فهم مغلولون عن كل خير .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا جَعَلْنَا فِيَ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنا جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقِهم بالأغلال ، فلا تُبْسط بشيء من الخيرات وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر : «إنّا جَعَلْنا فِي أيمَانِهِمْ أغْلالاً فَهِيَ إلى الأَذْقانِ » . وقوله : إلى الأَذْقانِ يعني : فأَيمانهم مجموعة بالأغلال في أعناقهم ، فكُنّي عن الأيمان ، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام ، وأن الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلاّ وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها فاستغنى بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان ، كما قال الشاعر :
وَما أَدْرِي إذَا يَمّمْتُ وَجْها *** أُرِيدُ الخَيْرَ أيّهُما يَلِينِي
أألْخَيْرُ الّذِي أنا أبْتَغِيهِ *** أمِ الشّرّ الّذِي لا يَأْتَلِينِي
فكنى عن الشرّ ، وإنما ذكر الخير وحده لعلم سامع ذلك بمعنيّ قائله ، إذ كان الشرّ مع الخير يُذكر . والأذقان : جمع ذَقَن ، والذّقَن : مجمع اللّحْيَين .
وقوله : فَهُمْ مُقْمَحُونَ والمُقْمَح : هو المقنع ، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر ، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة . وفي قول بعض الكوفيين : هو الغاضّ بصره ، بعد رفع رأسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِمْ أغْلاَلاً فَهِيَ إلى الأَذْقان فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال : هو كقول الله : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم ، لا يستطيعون أن يبسُطوها بخير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال : رافعو رؤوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِمْ أغْلالاً فَهِيَ إلى الأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ : أي فهم مغلولون عن كلّ خير .
وقوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية قال مكي : قيل هي حقيقة في أحوال الآخرة وإذا دخلوا النار .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } يضعف هذا القول لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله{[1]} ، وقال الضحاك : معناه متعناهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك }{[2]} [ الإسراء : 23 ] ، وقال ابن عباس وابن إسحاق : الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسوء ، فجعل الله تعالى هذا مثالاً لهم في كفه إياهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ومنعهم من إذايته حين بيتوه ، قال عكرمة : نزلت هذه الآية حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم فمنعه الله تعالى منه ، الحديث ، وفي غير ذلك من المواطن وقالت فرقة : الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى آباءهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم { لا يؤمنون } بما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغللين ، والغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة هذا معنى التغليل ، وقوله تعالى : { فهي } يحتمل أن يعود على «الأغلال » أي هي عريضة تبلغ بحرفها { الأذقان } ، والذقن مجتمع اللحيين{[3]} فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو «الإقماح » وهو نحو الإقناع في الهيئة ونحوه ما يفعله الإنسان والحيوان عند شرب الماء البارد وعند الملوحات والحموضة القوية ونحوه ، ويحتمل وهو قول الطبري أن تعود «هي » على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى ، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبيّ «إنا جعلنا في أيمانهم » ، وفي بضعها «في أيديهم » ، وقد ذكرنا معنى «الإقماح » ، وقال قتادة : المقمح الرافع رأسه ، وقال قتادة : { مقمحون } مضللون عن كل خير ، وأرى الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقها ورفع رأسه{[4]} .